مقدّمة
قصة محمد علي طه الأدبية شدّتني كثيرًا لأنه ابنٌ مباشَر لمأساة شعبه ولتحدّيه من أجل البقاء والحضور، البقاء الوجودي وفرض الحضور الوطني والثقافي.
فأبو علي المولود في ميعار سنة ١٩٤١ والشاهد الحيّ على النكبة، ومن الكوكبة الرائعة التي شادت القامة الثقافية والأدبية. وهو واسطة العقد بين فلسطين الطبيعية وفلسطين المنكوبة، وفلسطين التي تناضل لفرض ذاتها بمواجهة سياسات الالغاء.
شدّتني بدايات أبي عليّ، قصة الفتى المطرود مع شعبه. والذي لحق صواب فؤاده الابداعيّ ونبضَ عرقه المتأجّج فأرسل وهو طالب مدرسة إلى الصحف قصّتَه الأولى بعنوان متى يعود أبي؟ وهو سؤال فلسطينيّ باعَه آباؤه. وإذ بالجريدة تنشر القصة للفتى ابن المدرسة الثانوية كفر ياسيف محمد علي طه.
وجيل محمد علي طه هو جيل الشعراء، وكذلك زميلا صفّه المدرسيّ محمود درويش وسالم جبران، ولكنّه انبرى بالقصّة القصيرة.
إذًا فكاتبنا بعد التوكّل على الله أغمض عينيه وأرسل القصة، فانتشرت، وعليها أسمُه الثلاثيّ الذي تميّز به حتى اليوم: محمد علي طه.
جاءه معلّم اللغة العربية في ثانوية كفر ياسيف وقال له: هنالك كاتب ربما من الجزائر، ربما من العراق، نشرت له الصحف قصةً وأسمه الثلاثي مثل اسمك بالتمام!! لم يجرؤ الطالب الثانوي محمد علي طه أن يقول: هذا أنا. فآثر الصمت.
حين كان محمد علي طه بالصف الحادي عشر وصله مكتوب. وكان نادرًا أن يأتي ساعي البريد للبحث عن شخص مغمور. كان المكتوب من يوسف واشظ (فاشتس) رئيس تحرير المرصاد، هذا المعروف باتقانه عشر لغات!! تحت أعين نساء القرية المتسائلات نفض الطالب الثانوي الرسالة وإذ بها دعوة للقائه في مقهى في شارع الملوك. كانت الفرحة والترقّب كبيرين. لدرجة أن والديه وافقا على اعطائه مبلغًا للوصول الى حيفا، إلى حيفا لأول مرة في حياته! له بنطلون واحد ولكن لا مكوى في القرية كلها. فوضع البنطلون تحت الفرشة طيلة الليلة ونام عليها. وصل الطالب الثانوي محمد علي طه قبل الموعد بساعتين كانتا كافيتين بعد التيقّن من مكان المقهى أن يدخل القطار الارضي من ساحة الحناطير حتى مركز الكرمل مرتين وحتى ثلاثة. ثمّ ذهب عند فاشتس فوجده جالسًا، شعرَه طويلا يدخّن غليونا ويقرأ من خلال نظارة. فاشتس ظنّ أن محمد علي طه نادلٌ. ولكن محمد علي طه أصرّ أنه صاحبُ المقالات.. ولكن فاشتس من عليائه لم يقتنع أن العربيّ بهذا الجيل قادرٌ أن ينشُر ابداعًا بهذا المستوى الناضج معنًى وفنًا.
مؤخرًا بحثت عن الأدون فاشتس بچوچول وبالذكاء الاصطناعي، فلم أجد له ذلك الأثر… أمّا الفتى الميعاريّ المطرود من قريته فأسمه وتأثيره متفاعلان بين شعبه في كافة أماكن وجوده، وبين المجتمع اليهودي والعالمي، وكان آخره كمية التقدير والإطراء التي وصلتني من إيطاليا تقديرًا لمشاركة أبي عليّ في مؤتمر أدبيّ وسياسيّ فارقٍ قبل أسبوعين.
***
منذ كنت بالمدرسة إلى اليوم وأنا أتابع كتابات محمد علي طه. كنت أرى أنه أفضل من يفهم القرية، بمبناها الاجتماعي وسيكلوجية أهلها وتضاريسها، حتى أنني كتبت مرة أنه إذا كان رشيد سليم الخوري الشاعر القروي فأبو عليّ هو الأديب القرويّ. ولكنّ روايته قبل الأخيرة نوّار العلت جمعت بين القرية، الأصل، والمدينة التي يعيش فيها بطل الرواية، وقد كانت حيفا. أما بهذه الرواية فأبو علي الذي يجعل لحيفا حيزًا، ولكن المركزية لعكّا، مجاريًا راشد حسين بالحبّ الدائم لحيفا بغالبية قصائده إلا واحدة، عكا والبحر، آثر بها عكا على حيفا، وهذا هو حال حبيبنا أبي عليّ. ونحن مثلهما نحبّ الشقيقتين الأجملين. ولكنّ أبا علي حتى بأكثر رواياته مدنيةً مثل هذه ونوّار العلت يبقى عُمق القرية ميزتَه الأساسية، وبروايتنا هذه طريّة الصدور لها رائحة رغيف الخبز الخارج للتوّ من الطابون الفلسطيني، ولها شظايا المدينة المنتهكة، ولحظات الوقوف الأولى. وأديبنا صادق بانتمائه الشخصي، وهو رابح أيضًا بانتمائه الجمعيّ فمجتمعنا الباقي هو مجتمع قرويّ بغالبيته الساحقة، وصدْق أبي عليّ هو أساس إبداعه، وقد لاحظت مرّة أن أدبًا أو شعرًا متوسطًا يحرّكني أكثر بكثير من المتكلّف مهما كان الاستثمار به، فرأيت أن الأساس هو الصدق، وأن الإبداع يقف على قائمتيْ صدق الموقف والصدق الفنّيّ، وهذه ميزة أديبِنا المحتفى به.
إذا كانت البداية هي الأصعب لكل كاتب فمهم أن تكون هي الأكثر قبولًا وترحابًا لكل قارئ. مدخل رواية محمد علي طه جميل ومريح وقريب فهو مقهى السلطان في عكا القديمة وحديث عن كرة القدم والاستعداد للمباراة الحاسمة وسط النراجيل والصبي الأسمر "فقّوعة" الذي يجلب النراجيل ويرعاها.
هذه الرواية محرّكة للمشاعر باتجاهات شتّى، وما الرواية دون مشاعر؟!
والمشاعر ليست بمعزل عن الوعي. تجد الناس يتفاعلون مع مستويات النصّ بمستوى وعيهم. لكنّ هناك نصًّا ترتبط بهما شرائح من درجات مختلفة من الوعي، وقد يتفاعل الإنسان ذاتُه شابًّا ويواصل التفاصيل بأبعاد مختلفة مدى عمرِه. هذه اللّغة الّتي تتذوّقها كلّ الثقافات والأجيال بأبعادها الظاهريّة فالعميقة فالأعمق.. هي أكثر ما تستحقّ أن تُسمّى نصًّا وهذه الرواية من هذه النصوص الفلسطينية بامتياز.
ومحمد علي طه صاحب الكتابة الساخرة منذ أن كتب مقالا ساخرًا في معلّمه في الصفّ الحادي عشر، وكان المعلّم الرحب، الطيّب، والمشجّع قد عرف وتغاضى، ووافق على تعليقها على لوحة المدرسة، فأحبّها الطلاب. ومن هنا بدأت علاقة محمد علي طه بالادب الساخر، وعلى طول مسيرته إلى يومنا هذا، وقد اكتشف الأدباء أن السخرية هي من أدوات الانتقاص النافذة بمواجهة الحاكم. ولم يبخل علينا أبو عليّ بالسخرية وبالدراما وبالعاطفة، فتراك تضحك حينًا وتمسح دمعة في غيرها.
كيف لا تضحك عندما تسمع عن الحيوانات التي تلحق الناس في الآخرة لتشهد على فعلتها المشينة، وتضحك أكثر عند تساؤل المتورّط: هل سيلحق بي مردخاي ويصرخ: يا خسن يا خمار؟!
وتبتسم على شتائم الخواجا مردخاي، وفارس الذي أعاد له في سرّه فشتم الببّور الذي حمله إلى بلادنا.
وتدمع عينك عندما تصل فارس رسالة يعرفها من خطّ يد المرسل من مخيمات اللجوء، خطّ والده اللاجئ.
ويستحق الأديب أبو علي أن يُطلق عليه لقب راوي البقاء، فالنكبة هي الحدث الفاصل الفارق المؤسس الجذريّ في أعمق أعماقه، في أعمق رواياته وقصصه وأدبه عمومًا، ومنها ينطلق بمعركة البقاء فالتجذّر فالحضور الكريم.
يتساءل أديب البقاء محمد علي طه في هذه الرواية:
ماذا لم نفعل كي نبقى في الوطن…؟
وفي موقع آخر يكتب:
دفعت المعلوم والمجهول وأعترفَ مردخاي بمواطنتي. أنا مواطن في وطني بفضل ما يُقال ولا يُقال…
وفي موقع آخر يكتب: أشعر أنني دفعت ثمنًا غاليًا للبقاء في الوطن.
ثم يقول: لو علمتَ غطرسةَ عوزي، وقسوةَ الضابط الشويلي، وظلم الحاكم العسكري، وسفالةَ مردخاي لقدّرتَ بقائي.
وكذلك يذكر عن ظُلم ذوي القربى، مثل قاطع الطريق والمختار والغنيّ الذي حدّثه صديق بأنه:
"على الرغم من النكبة بقي ينظر إليّ نظرة الملّاك إلى الحرّاث".
وهناك من بقي بالوطن أيضًا بالحيلة فإذا زمّر الزامور وقفتُ وقرأتُ الفاتحة؟
- لجنود اسرائيل؟
- وهبتها لروح أبي، ولا أحد يعلم. نريد أن نعيش، نريد أن نبقى في عكا يا فارس.
إذا فهو بقي بالوطن بما يُروى وبما يَخجل حتى أن يعترف به لنفسه، ولكنه لا يكتفي بذلك بل يكتب بالسطر الأخير للرواية: بقيتَ لتفرش درب العودة برموش عينيك.
وعندما قرأت بهذه الرواية:
"لا شيء في الدنيا يعوّض المرء عن طفولته المسروقة، لا العلم ولا النجاح يعوّضانها، ولا المال، ولا البحر ولا البرّ ولا الثورة الفرنسية ولا ثورة البلاشفة.."
تذكرت أنني في عيد ميلاد أبي عليّ الثمانين اشتريت له عشر طابات ملوّنة تعويضًا عن الطابة الملوّنة التي فقدها في نكبة ميعار وتحدّثت عنها بأكثر من موضع، ففرحَ لوهله، ثمّ وزّعها لأحفاده، وقال لي بالثقة التي بيننا: لا طابة كطابة ميعار؟!
كذلك الوحدة الوطنية دائمًا حاضرةٌ في كتابات أبي عليّ، فليس صدفةً أن يلتقي ابن عين الزيتون الجائع التائه بإبن حرفيش الذي يقول له سأقسّم العروسة بيني وبينك، أمي تقول طعام الواحد يكفي اثنين.. وقدّم له خبز رقيق مدهون باللبنة وملفوف لفًا أنيقًا، ناوله الشطر الأكبر..
ثم يصل معليا وتفتح الباب امرأة وتناوله رغيفًا وكمشة زتون أسمر.
فأديبنا صورة عن الفلسطيني الأصيل ابنِ شعبه كل شعبه.
عندما انهيت الرواية التي مبنيّة فنيًا وإبداعًا على حقائق تاريخية، قُلت إنها يجب أن تصل شباب شعبنا هنا، ويجب أن تصل الفلسطينين اللاجئين ليتعرّفوا على معارك البقاء، ومنها ما يُقال ومنها ما ننكره حتى بدواخلنا، ولكنّ كلّه من أجل البقاء في الوطن، وقلت لنفسي يجب أن تُترجم إلى اللغة العبرية ليقرأوا ويعرفوا أنهم "لن يعرفوا كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء".
هل محمد علي طه أديب وقِصصيّ أم أديب وقَصصيّ؟
انتبهت إلى الآية القرآنية: "نحن نقصّ عليك أحسن القصَص". فبحثت عن الفرق بين القِصص والقَصص. فوجدت أن القِصص تروي الخيال والحقيقة. بينما القَصص فهي فقط القَصص الحقيقية، وهي من قصّ كما نقول قصّ الأثر.
وأديبنا يكتب حكايتنا نحن الباقين، هو أديب البقاء، وهذه الرواية هي رواية البقاء.
اقرأوها فهي تملأ الروح انتماء وأصالة وإصرارًا على النضال.