xxxxxxxxxxxx xxxxxxxxxxxx

فيصل الحسيني .. الخالد أبداً

فيصل الحسيني .. الخالد أبداً
5/6/2024
بقلم : خالد مناع
 

كثيراً ما انتابني التأمل في ذاكرة القدس وأنا أتجول في شوارعها  وعقباتها. ألتفت نحو منازل تزين أزقتها بواجهات لا يمكن محوها من صفحات التاريخ. أعبر الشارع المؤدي إلى بيت الشرق، أتوقف قليلاً لأتلوا ذكريات مع القائد الفذ فيصل عبد القادر الحسيني، وفي البحث عن الزمن الضائع خلف بوابة شهدت صناعة التاريخ المعاصر لكفاح الشعب الفلسطيني.  
استطاع فيصل الحسيني بهمته وكفاحه الدفاع عن الوجود الفلسطيني بروافده التعليمية والثقافية والكفاحية في مدينة القدس وكان رهانه الكبير وطنيا وكل شيئ في حياته قبل وبعد أن يغلق بيت الشرق في حياته.
هل رحيله كان نهاية؟ في نظر أبناء القدس وفلسطين عموماً، طبعا لا، الموت مجرد حالة شمولية موقوتة بعلم الله وإرادته في الزمن والمكان. رحل فيصل الحسيني ولم يحمل حياته معه. إسم كبير ملأ زمانه صخبا ونضالاً ومواقف وطنية يتذكرها رفاق دربه في كل يوم.
على العكس مما يحدث في حولنا بحيث يظل النضال هو الأبقى متجاوزاً صاحبه في كل شيء حتى في القدرة الاستثنائية على الاستمرار. أعتقد أن الذي يضمن ذلك هو انخراط الأجيال الشابة في الثورات المتجددة التي لا تتوقف أبداً وإسدال الستائر السرية عن كثير من المحطات الكفاحية. هذه الحيوية تضع أسئلة الأجيال السابقة في مواجهة إرباك الأجيال الجديدة، مما يضمن الاستمرارية في الثورة. 
ولا يتسع الزمن لتقاسم معاناة الحياة وأبطالها يموتون أيضاً. في النهاية هم لا يموتون إلا قليلاً، لأن صلابة مواقفهم وخلود تحدياتهم تظل تذكرنا بأن مناضلا كبيراً كان هنا وانسحب تاركاً وراءه فراغاً مؤلماً.
لم يكن فيصل الحسيني مناضلا خلافيا بل كان هادئا ومتحركاً. ببساطة، كان جامعاً لغير انتماء لحركة "فتح" كغيره من القادة المخلصين، بكبر المواجهات اليومية التي نظموها في مسيرة نضال شاقة ومتنوعة المراحل.
من مركز الدراسات العربية والأبحاث ومركز الخرائط واللقاءات القيادية والجولات التضامنية التي تجاوزت حدود القدس لمواساة ضحايا بطش الاحتلال وجرائمه. كان فيصل يشق طريق مناضل دمث الأخلاق بين أبناء شعبه، ارتبط بوطنه وبقضايا جركة التحرير الوطني "فتح" مثله مثل جيل فلسطيني بكامله ظل مقتنعا بأن ما كان يحدث من انكسارات في عمق المؤسسة الفتحاوية ليس إلا حالة طارئة وليس خللاً هيكلياً في الثورة العميقة.
الحسيني المناضل كان أكبر من ذلك كله، فقد ظلت سيرته النضالية، من بداياتها حتى في حالاتها الفردية بدءاً من تجربة بيت الشرق وانتهاء بمراسم جنازته ومواراته في مأوى برحاب الأقصى المبارك.
وكأن الجسيني وهو يضع خطط كفاحه اليومي تحت وطأة المسؤوليات الجسيمة يضيئ الطريق الخفية لشعب بكامله بعد إخفاق أنظمة خسرت في مجملها موعدها مع التاريخ، وعلى أشخاص لا رهان لهم إلا رهان المصالح الذاتية الضيقة.
ترك الحسيني وراءه تاريخاً وطنياً مشرفاً ضحماً يتطلب التوقف عند مراحله ومراجعته بموضوعية والعمل الجاد لاستنهاض التجربة. فقد ظل إلى آخر أيامه مقتنعاً بجدوى الشراكة بالمشروع الوطني ودافع عنه باستماتة مع كل ما يمكن أن يتركه من تضحيات وردود فعل. 
في جلسة على مأدبة عشاء مع صديق ضابط في أمن الدولة الكويتي في فناء إقامته بفندق شيراتون في الفروانية فاجأني بأن فيصل الحسيني كان مقيما في هذا الفندق وكان ذاك الضابط يشرف بنفسه على أمن الحسيني خلال زيارته الرسمية في الكويت. سرد لي الضابط كيف عثروا عليه متوفياً في غرفته.
قلت لصديقي هل أنت متأكد مما تقوله؟ أكد لي صدق الرواية ليدحض شكوكاً راجت حول ظروف وفاته.
أخبرت شقيقه الراحل غازي الحسني بفحوى الحديث مع الضابط الكويتي في تلك الليلة. وروى لي أبا منصور أن الموساد الإسرائيلي تسلل إلى غرفة فيصل في فندق في بيروت واستبدل معجون أسنانه بأخر مسمم.
قبل سفره إلى الكويت. أنذاك، بان على لثة أسنانه وفمه بقعاً حمراء وبرغم إسداء شقيقه غازي النصح له بأن يلغي زيارته إلى الكويت إلى أن يتعافى من التهابات أصابته بعد استخدام معجون الأسنان المسمم إلا أنه أصر على القيام بتلك الرحلة لتحقيق مصالح كويتية فلسطينية مشتركة بعد العلاقات الباردة التي شابت حمى الصداقة التاريخية المميزة بين البلدين بعد الاحتلال العراقي للكويت.  
قلت لطلبة الصحافة في جامعة بيت لحم إبان عملي محاضرا في قسم الصحافة آنذاك وفي حياته بأن وجود فيصل الحسيني في محاضرة حول الاستيطان الصهيوني في القدس بيننا مكسب كبير، وحظ استثنائي؛ إذ نادراً ما نجد رمزا كفاحياً على قيد الحياة، نسأله في مؤتمر صحفي ونستمع إليه. مواقفه وتجربته النضالية في مناهضة الاستيطان في المدينة المقدسة منحته هذه الخاصية التي لا تمنح لكل الناس. لبى فيصل دعوتي له للمشاركة في المؤتمر الصحفي حول الاستيطان الصهيوني في القدس. كان يوما عملياً مميزا لطلبة الصحافة في جامعة بيت لحم. 
أن تكون مناضلاً ذلك يعني أن يمنحك التاريخ فرصة استثنائيةً لا تمنح لغيرك، ولهذا تصبح المسؤولية في غاية العظمة. فقد ذهب ابن القدس تاركاً وراءه فراغاً قاسياً، وظل الحسيني علامة تذكرنا دائماً بأن الجيل التأسيسي لا يزال مستمراً لا كتاريخ فقط، ولكن كحالة ثورية متجددة أيضاً.
في الذكرى الـ 23 تجدد أجيال فلسطين المتعاقبة العهد للمناضل الراحل في مأواه بفناء المسجد الأقصى المبارك وتمضي قدماً للدفاع عن القدس حتى التحرير. 
الرحمة والسلام لروح المناضل فيصل عبد القادر الحسيني الخالد أبداً.

 
 

للمزيد : أرشيف القسم