قال أدونيس، الشاعر الفرنسي اللبناني السوري، إن قصيدته «السماء الآن هي نفسها الموت»، نموذجٌ يؤكد أن ليس هناك قارئ عربي على الإطلاق.
قرر الشاعر، في برنامج «مَحَاوِر» على «فرانس24»، مع وسيم الأحمر، أن تلك «كانت أول قصيدة عن غزة، ولم يقرأها أحدٌ بوصفها غزة، لأن اسمها لم يذكر»، «إنما كُتبت عُمْقياً حول غزة». يؤكد أدونيس. ويوضح سبب إشارته لهذا الأمر: بعضهم كتبَ عنّي أنني لم أكتب شيئاً عن غزة، في حين أن القصيدة الأولى عن غزة هي «السماء الآن هي نفسها الموت».
ما عليك إلا أن تجمع خِرقاً، وقهقرى، وسديماً، وحديداً، وأنابيبَ كونيةً، حتى تصبح قصيدةً عن غزة!
ذهبنا فوراً إلى القصيدة، وكان البرنامج نفسه قد وضع على الشاشة مقطعاً منها:
«أنتِ الأرضُ
الظلماتُ تفترس الضوء.
وها هو طعامك: خبزٌ يابسٌ، معجونٌ بأنفاس المشردين، وأشلاء القتلى».
هكذا إذن! ما عليك إلا أن تجمع خِرقاً، وقهقرى، وسديماً، وحديداً، وأنابيبَ كونيةً، حتى تصبح قصيدةً عن غزة!
لكن كيف نتعرّف على غزة في القصيدة، إذ لا يمكن العثور على مجرد تلميح واحد يشي بالقطاع المنكوب. هل خفّف من شعرية محمود درويش أن قصائده مليئة بالأمكنة، والشوارع، والشخصيات، والأحداث التفصيلية، وليست بالضرورة مفصلية. هل خففت أسماء الأمكنة في قصائد سعدي يوسف من شعريتها، هو المولع باستعادة الأمكنة، من العراق، حتى أبعد الشوارع والساحات، بل حتى أرقام الشقق التي سكنها. الشاهد هنا أن أرقام الشوارع وعناوين البيوت لم تتمكّن من إفساد القصيدة، إذا كان هذا ما يخيفك.
فما بالك عندما يكون المكان، موضوع القصيدة، مهدداً بالاقتلاع، بل كان (في 08 فبراير 2024، تاريخ نشر القصيدة) قد دُمّر جزء كبير منه، وسكانه باتوا على الطرقات، قتلى وجرحى ومشردين، ذرةً ذرةً، رملاً، عُضواً عُضواً، بروقاً تُحتَضر، إلى آخرهم.
ماذا لو ذكرتَ على هامش القصيدة مثلاً أنها مهداة إلى غزة، سوى ذلك كيف نعرف أن مجرد ذكر الموت واللهب يعني غزة، ما دامت الحروب متوفرة في كل مكان، من إدلب، إلى السودان، واليمن، وسواها.
في المقابل، سيبث شاعر ألماني (ديتر ديم) قصيدة مؤثرة، في فيديو مصوّر، يؤديها ممثل مشهور (هالرفوردن) تحمل عنوان «غزة غزة»، وكم كان مؤثراً أن يكرر الاسم مرتين في العنوان، الاسم الذي يأنف أدونيس من ذكره في قصيدته المتكبّرة ولو لمرة واحدة، سيرد مرات في متن القصيدة – الفيديو الألمانيين، وفي الخلفية ستظهر صور القصف، وصور الغزيين، وسيظهر الممثل الألماني (88 عاماً) بعينين متأثرتين، حائرتين، يؤدي القصيدة.
حاولتُ مراراً تخيل شاعر، ممثل عربي في فيديو مماثل، كم سيكون رائعاً ومؤثراً أن يظهر مثلاً شاعرٌ بعمر أدونيس ومكانته بعمل مماثل؟ ورجاءً لا تقولوا إن الوقت لم يمرّ بشكلٍ كافٍ لكتابة قصيدة عن غزة، فالحدث، وكلُّ حدث، يستحق النزول فوراً، لقد فعل ذلك من قَبلُ سينمائيون، مع كل صعوبات وضرورات المعدات والتحرك، فما بالك بشاعر أو أديب لا يحتاج أكثر من قلب نابض وضمير حيّ!
سيقول الفيديو الألماني:
«غزة، غزة
رجل يضغط أصابعه الصغيرة المتشظية على لحيته أثناء همسه
ماذا فعلت هذه الأصابع الناعمة للجنرال؟
ثم يرفع طفله صوب الله والشمس والقمر».
إنك تمدح بوضوح شديد، تسمي الأشياء، وبشكل مباشر للغاية، في المكان الخطأ، المكان المفيد، لكن حين يجدّ الجدُّ ستتصرف كشاعر كوني مشغول بخرافات التكوين
ثم يسأل:
«هل أنصح هذا الأب أن يكون هادئًا مثل ضيف في برنامج حواري،
حتى لا يُخطئ في كلمة ربما تفهم أنها معادية للسامية؟
بينما تطرد الطائرات المسيّرة الناس وهم جوعى؟».
هل يخشى أدونيس على سمعة القصيدة من المباشرة؟ دلّنا عمّا فعلتْه قصيدتك غير المباشرة في مسيرة الشعر العربي. أيّ أثر، وما الذي يستحق أن يبقى من كل قصائدك؟
«أنتقد بشدة الكتّاب العبثيين، لأن هؤلاء يرتكبون الخيانة بكامل قيافتهم»، يقول الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو.
ويضيف: «إن محاولة الفرار إلى السراب لا تجدي. إنني معنيٌّ تماماً بما يقوله القلب الآخر، العقل الآخر، ولا يمكنني إلا أن أكون ضميراً».
لستَ عبثياً، هذا واضح، لكن عدم تسمية الأشياء بأسمائها في الأوقات الصعبة، كهذه الأوقات، هو شكل من أشكال التحايل والهروب، ولماذا؟ وإلى متى سيظل الشاعر هارباً من قول ما يجب قوله، إن قامت ثورة في بلده قال مشكلتها إنها خرجت من الجوامع، وإن اقتُلعت مدنٌ برمّتها قال: «السماء كئيبة»، أو «السماء الآن هي نفسها الموت».
إنك تمدح بوضوح شديد، تسمي الأشياء، وبشكل مباشر للغاية، في المكان الخطأ، المكان المفيد، لكن حين يجدّ الجدُّ ستتصرف كشاعر كوني مشغول بخرافات التكوين.
فقط لو تتصرف كشاعرٍ ألماني.