كانت المعركة الفعلية ولا تزال هي تلك التي تدور على الأرض الفلسطينية، في غزة تحديداً وفي الضفة الغربية بالدرجة الثانية، ويحق للمتتبع والمراقب أن يسأل عن جدوى المعارك الأخرى التي استهلها "محور المقاومة" بقيادة إيران، ويستمر فيها من اليمن إلى لبنان والعراق.
عملت الولايات المتحدة على ضبط ساحة النزاع منذ اندلاع معركة غزة. قدمت دعماً غير مسبوق للحليف الإسرائيلي، في السلاح والذخيرة وفي الموقف السياسي، وسعت في موازاة ذلك إلى منع تحول حرب غزة إلى انفجار إقليمي. كانت تعرف أن هذا الانفجار يمكن أن يتسبب به طرفان: إسرائيل إذا مضت في سياسة تهجير الفلسطينيين إلى البلدان المجاورة ورفضت البحث في تسوية سياسية جدية، وإيران ثانياً إذا استغلت نفوذها وانتشار ميليشياتها في البلدان العربية لتصعيد التوتر إلى حدود الانفجار العام.
عملت الولايات المتحدة في خضم دعمها إسرائيل على خطين معلنين: تحذير إيران وضبطها من جهة، وطرح ملامح التسوية بدءاً من تحديد مستقبل غزة، من يديرها بعد الحرب وما علاقتها بمشروع الدولة الفلسطينية الذي بدأ الحديث عنه يعود إلى الواجهة إثر غياب طويل، من جهة أخرى.
لم تتفاعل القيادة الإسرائيلية بإيجابية مع أي أفكار تمهد لاستعادة الفلسطينيين حقوقهم المشروعة، وبقي العقل القيادي فيها منشغلاً "بالأنفاق" بعد ثلاثة أشهر على بدء المعارك، بدلاً من محاولة تلمس ضوء في نهايتها، وفي المقابل سارت إيران على حافة تفجير المنطقة. شجعت وقادت عمليات "المحور" ضد أميركا وإسرائيل، واختلف التطبيق من جبهة إلى أخرى.
الجبهة اللبنانية التي فتحها "حزب الله" بدت الأكثر انضباطاً على مدى أسابيع انخراطها "في مساندة غزة"، فيما اخترق "حشد" العراق سقوفاً في استهدافه القوات الأميركية في سوريا. أما حوثيو اليمن فانتقلوا من إطلاق صواريخ ومسيرات لا تصل في معظمها إلى إسرائيل، إلى خطوة تصعيدية تمثلت باستهداف السفن وتعطيل الملاحة التجارية الدولية في البحر الأحمر.
لاحظت الولايات المتحدة تمايزاً تصعيدياً في سلوك الحوثيين. هي راقبت تمسك "حزب الله" بعدم الذهاب إلى حرب شاملة، على رغم اغتيال المسؤول في "حماس" صالح العاروري واستهداف قيادات عسكرية في الحزب، وردت على الميليشيات العراقية باستهداف أحد قادتها في بغداد في رسالة حاسمة بعد اكتفائها بردود محدودة في سوريا، لكن سلوكها اختلف مع تصاعد حركة الحوثيين في منطقة باب المندب والبحر الأحمر. فهناك بدأت عمليات الحوثيين تضر بالشحن البحري والتجارة العالمية، على رغم قول الحوثيين إنهم يستهدفون فقط السفن المتوجهة إلى إسرائيل. شن هؤلاء 26 هجوماً منذ بدأوا عملياتهم البحرية ضد السفن العابرة، 12 منها طاولت سفناً لا علاقة لها بإسرائيل، والنتيجة كانت تحول الشحن البحري الدولي إلى الطريق التاريخي حول رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا، وارتفاع كلفة النقل والتأمين والأسعار وانعكاسها جميعاً على الاقتصاد العالمي.
أضرت تلك الهجمات بإسرائيل، فانخفض نشاط ميناء إيلات، كما أضرت بقناة السويس التي خسرت 28 في المئة من إيراداتها، في ما تواجه مصر أزمة اقتصادية حادة.
عملياً، وضع مضيق باب المندب على لائحة الإقفال، وكان ذلك في الأساس حلم إيراني بامتياز، فإيران لم تتوقف يوماً عن التهديد بإغلاق مضيقي هرمز وباب المندب، ومنذ أسابيع قليلة هددت بإقفال البحر المتوسط بعد البحر الأحمر.
شهدنا نموذجاً عن الصراع في البحر الأحمر وبحر عمان في ثمانينيات القرن الماضي عندما أطاح منغستو هيلا مريام الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي، فيما كان الصومال تحت قيادة محمد سياد بري واليمن الجنوبي يحكمه الحزب الاشتراكي اليمني. حاولت البلدان الثلاثة إقامة تحالف "القرن الأفريقي" وجرت مساع لضم ليبيا القذافي إليه، بهدف الإمساك بالممرات البحرية. حصل ذلك في ذروة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي وأميركا، ونال المشروع الطموح دعم المعسكر الشرقي، لكنه لم يعمر طويلاً ليشكل تهديداً، فقد انهارت إثيوبيا في انقساماتها وفر منغستو، وصار الصومال صومالات، وغرق اليمن الجنوبي في دماء أبنائه، ولحقه شماله إلى الكارثة التي يعيشها اليوم، أما الراعي السوفياتي فقد زال عن الخريطة.
أدى التساهل الأميركي مع إيران وإزالة إدارة بايدن منظمة الحوثي من لوائح الإرهاب إلى تعزيز تلك الأوهام في صنعاء وطهران، وزاد تعثر مفاوضات مسقط بين الإيرانيين والأميركيين في حدة التوتر. فانتقل الحوثي من محاولة احتجاز السفن التجارية إلى استهداف السفن الحربية الأميركية والحليفة، وردت البحرية الأميركية في 31 ديسمبر (كانون الأول) بإغراق ثلاثة زوارق حوثية وقتلت 10 من عناصرها أثناء محاولتهم اختطاف سفينة ترفع علم سنغافورة. وفي الثالث من يناير (كانون الثاني) أصدرت الولايات المتحدة و12 دولة حليفة إنذاراً صريحاً جاء فيه: "يتحمل الحوثيون مسؤولية العواقب إذا استمروا في تهديد الأرواح والاقتصاد العالمي والتدفق الحر للتجارة في الممرات المائية الحيوية في المنطقة".
كان التحذير موجهاً إلى الراعي الإيراني بقدر ما هو موجه إلى الحوثيين، وقد تحدث الإعلام في طهران في الأيام التالية عن رسالة أو رسائل وجهتها واشنطن إلى المسؤولين الإيرانيين. صحيفة "أرمان أمروز" أوضحت (10 يناير/ كانون الثاني) أن "طهران تلقت في الأيام الأخيرة رسالة من الولايات المتحدة، تتضمن أطراً متعددة مع تراجع وتشجيع وردع وتحذير في الوقت نفسه". وعلق المتخصص الإيراني رحمان قرمان بور قائلاً إن "الرسائل المتبادلة بين طهران وواشنطن تدل أن الطرفين لا يريدان توسيع نطاق الحرب في المنطقة".
غير أن صحيفة أخرى هي "أرمان ملي" استخفت بمعنى الرسائل فكتبت أنه "على رغم تهديد الأميركيين لليمنيين، فإنه مجرد تهديد، حيث دخل اليمنيون المواجهة بقوة أكبر"، وزاد الكاتب الإيراني عبدالرضا فرجي راد أن "الأميركيين لن يفعلوا ما لم يفعله السعوديون والإماراتيون وأنهم يشترون الوقت".
رفع الحوثيون شعارات إيران عن طرد الأميركيين من غرب آسيا، واستخف الإيرانيون بالتحذيرات الأميركية، في الـ10 من الشهر الجاري أطلق الحوثي 20 صاروخاً ومسيرة على سفينة أميركية انتقاماً لضحاياه الـ10. وفي اليوم التالي دان مجلس الأمن محاولات شل حركة السفن في البحر الأحمر، مع امتناع روسيا والصين عن التصويت، وبات الغطاء الدولي متوفراً لحملة القصف البريطانية الأميركية. كان التصويت الروسي في مجلس الأمن شبيهاً بتصويت موسكو على القرار الدولي الذي أتاح لحلف الأطلسي التدخل ضد نظام معمر القذافي في ليبيا قبل 13 عاماً.
لم تحصل ضربة، صباح الجمعة الماضي، على أكثر من 70 موقعاً حوثياً فجأة ومن دون إنذار. قبل ساعات كشفت صحف عالمية عن الموعد. وإذا كانت إيران وضعت مسبقاً في جو الهجوم الأميركي البريطاني فإن "التحالف الغربي بذل قصارى جهده لإبلاغ الجميع في اليمن بضرورة الاختفاء" ولذلك كانت الخسائر في الأرواح قليلة.
المعلق الروسي ألكسندر نازاروف خلص من سير المواجهة إلى استنتاج لافت. قال في تحليل: "بعكس حزب الله، لم يقتصر الحوثيون على الهجمات الصاروخية، التي لم تسبب سوى أضرار طفيفة، لكنهم أسقطوا في الواقع ثقلاً حديدياً على قدم الغرب من خلال توجيه ضربة للتجارة البحرية، ويبدو لي أنهم، شأنهم في ذلك شأن حماس قد أخطأوا في تقدير أخطار الرد وإمكاناته، فمزيد من التصعيد إلى حرب واسعة النطاق ليس مفيداً وصعب التنفيذ".
هل يعي الحوثي ذلك؟ بعد الضربة الجوية هدد بإحراق الأساطيل الغربية لكنه شدد أن جماعته لا تستهدف الشحن الدولي، الهدف فقط تحييد السفن المتجهة إلى إسرائيل، ولكن ماذا عن السفن الأميركية والبريطانية والحليفة؟
ستكون خطوة الحوثي المقبلة مرتبطة بالقرار الإيراني، شأنها شأن خطوات أطراف "المحور" الآخرين.
لذلك كتب المسؤول السابق في الخارجية الأميركية ديفيد شينكر أن إيران "تواصل تقديم الدعم والتوجيه الاستراتيجي لوكلائها في شن حرب الظلال هذه، وإذا كانت واشنطن وشركاؤها الإقليميون والدوليون يأملون في احتواء هذا المحور أو دحره، فسيتعين عليهم التركيز على الراعي وليس فقط على عملائه".