اضافة الى ما يدور من متغيرات على مستوى النظام العالمي من تحولات بصعود قوى في وجه الهيمنة الأمريكية التي عاثت بالأرض فسادا وجريمة . هنالك اليوم متغيرات جادة وحقيقية محلية واقليمية ودولية قد فرضتها وافرزتها الأحداث الجارية . أقصد بذلك حول العالم وجرائم الإبادة والتدمير والترحيل بحق شعبنا الجارية اليوم الذي اتيح لنا وللعالم مشاهدة فظائعه عن بُعد مع الهدنة المؤقتة ومحاولات الولايات المتحدة فرض سيطرتها على منطقتنا وترويض مكوناتها وفق رؤية مصالحها التي واجهتها شعوب العالم والحقت بها الهزائم دون ان تتعلم هي دروس التاريخ التي تفرض عليها تغير ادارة سياساتها الفاشلة والخاسرة . هذا إضافة إلى
تراكم لمتغيّرات وصلت إلى حدّها الأقصى ، وربما ستتجاوزه مع الحرب بالوكالة في اوكرانيا وعدوان الفظائع على غزة ، يرافقه شعور بانحسار نفوذ الغرب على العالم ، خاصة ايضا ان هناك في الشرق الأوسط اليوم قوى غير حكومية عسكرية لديها قدرة على تحدّي ما يسمّى القوة العسكرية الرابعة في العالم ، أي إسرائيل .
من جهة اخرى هنالك صمود ومقاومة ومواجهة شعبنا المتعددة الاشكال للأحتلال التي ورغم التضحيات الكبيرة ، فقد حالت دون تحقيق الأحتلال لاهدافه المُعلنة من هذا العدوان حتى اليوم وفرضت معادلات جديدة وحراكا داخل مجتمع دولة الأحتلال نفسه والمجتمعات اليهودية حول العالم بشكل عام ونقاشات مختلفة حول العالم . كما وادت الى بروز مكانة قضيتنا التي عادت إلى المشهد الدولي كأولوية سياسية تتطلب حلاً سياسيا عادلاً يضمن حق تقرير المصير والاستقلال الوطني وحل قضية اللاجئين ، وذلك وفق ما نشهده من مظاهرات الملايين والتضامن العالي للشعوب ، كما وايضا للعديد من الدول التي اصبحت تشهد في اروقة صناعة القرار بها نقاشات حادة حول جدوى سياساتها ، التي باتت تتبدل مواقفها جزئيا في رفض سياسات الجرائم والابرتهايد والفوقية الاستعمارية والتي اصبحت تنعكس سلبا على الاخلاقيات المعلنة لتلك الدول أو حتى مكانتها بين شعوبها وعلاقاتها الدولية واعادة حساباتها المتعلقة بجدوى ازدواجية المعايير الى حد ما من جهة ، وعلى مستقبل مبدأ حل الدولتين من جهة اخرى الذي تعيقه الوقائع الاستيطانية على الأرض ، ونفتقر نحن أنفسنا وغيرنا إلى خطة تنفيذية سياسية من أجل الوصول لتحقيقه في ظل ظروف النظام الدولي السائد حتى اللحظة . فتبقى دراسة الخيارات والبدائل الأخرى امراً واجباً اليوم في حال استمرار عدم قدرة المجتمع الدولي على فرضه وتكريس إقامة الدولة الفلسطينية كما فَرض هذا المجتمع اقامة دولة الاستعمار الإسرائيلي بالقرار الأممي ١٨١ ، خاصة أمام عدم وجود نوايا لدى الغرب واصرار العقلية الصهيونية في انتهاك كافة القرارات والقوانين الدولية وأنفاذ نظام الابرتهايد الإسرائيلي على كل ارض فلسطين التاريخية ( دولة واحدة بنظام فصل عنصري ) ، الامر الذي لن تحتمل إسرائيل تبعاته كما لا تحتمل مسار التغيير الايجابي الديمغرافي لصالح شعبنا في كل فلسطين التاريخية على المدى القريب أمام العالم باعتبارة النظام الوحيد المتبقي اليوم بهذه الخصائص والذي يواجه معارضة واسعة قد تصل الى تبعات عقابية لاحقا .
ولهذا يسعى الغرب وبالمقدمة منه الولايات المتحدة لتغير شكل الحكومة القائمة الآن في اسرائيل للتعاطى مع مخططات ورؤية جديدة لاستدامة ادارة الصراع يتم محاولة الوصول لها من خلال تبعات ما يجري من مفاوضات مكوكية في بعض العواصم ومنها العربية ، وتحسين صورة الغرب وفق تصريحات متعددة لكنها مشتتة لا تحسم بعد موقفا واضحاً بخصوص فتح مسار سياسي يقوم على تنفيذ الحقوق الوطنية لشعبنا غير القابلة للتصرف بما فيها الدولة ذات السيادة .
لذا فأن على الجميع والكُل الوطني الآن رغم ما ساد من خلافات هنا وهنالك ، الاتفاق على قاعدة القواسم المشتركة من البرنامج الوطني الذي حملته منظمة التحرير الفلسطينية على مر العقود الماضية من الزمن والذي اصبح يحتاج الى اثراء بحكم الوقائع الجديدة . كما وتَحمُل المسوؤلية الوطنية المشتركة لحماية وانقاذ شعبنا وحقوقه الوطنية وفق البوصلة الفلسطينية ، وتقييم المرحلة السياسية منذ اتفاق اوسلو الذي شكل مرحلة فارقة في تاريخنا السياسي بغض النظر عن اختلاف الأجتهادات بخصوصه ، وما اَلت اليه الأوضاع منذ ذلك التاريخ حتى اليوم بمنهج الفكر النقدي دون التمسك بوهم دوام احتكار الحقائق والوقائع والمواقع من اي طرف ، والتي لا يمكن ان تبقى في حالة من السكون والجمود والاستدامة امام حقيقة حركة التاريخ وضرورة النظر الى الوقائع في اطار متغيراتها .
كما وتتطلب المرحلة الراهنة اكثر من أي وقت مضى ضرورة القيام بتقييم اَليات وأساليب الكفاح الوطني التحرري التي عاشها شعبنا في كفاحه وقدم التضحيات في سبيلها في ساحات مختلفة الى جانب ساحة الوطن الرئيسة الذي لا نملك سواه وطناً ، واستخلاص العبر من اجل معرفة كيفية النهوض بواقع الحركة الوطنية الفلسطينية بظروفها الراهنة وتحديد الرؤية السياسية القادمة ببرنامجها ومحركاتها وادواتها ، لنقطع بذلك الطريق على محاولات خارجية ومراكز قوى تريد انهاء المكانة الرمزية والتمثيلية لمنظمة التحرير وتراثها الكفاحي الوطني . إضافة إلى الأهمية المطلقة الاَن لوقف استمرار المحارق والعدوان ضد شعبنا اينما كان وضمان حرية اَسرانا ، ومن ثم الإعتماد على جماهير شعبنا وخاصة الشباب منهم من اجل تكامل التواصل والثقة حتى مع كل فئات ومكونات شعبنا لبناء تلك الرؤية السياسية وادواتها المطلوبة لمنع تنفيذ مشروع مملكة إسرائيل الكبرى التي تستهدف بالأساس اراضي الضفة الغربية المحتلة بما فيها القدس وعزل قطاع غزة في مشروع اخر .
هؤلاء الشابات والشباب الذين يشكلون الاغلبية من تعدادنا ويمتلكون ثقافة صمود ومقاومة من اجل الحياة تختلف عن تلك التي اعتاد عليها جيلُنا والجيل الذي سبقنا نحن بالطبع ، وذلك باعتماد الحق الانتخابي لهم وفق القاعدة التي تقول بأن الشعب هو مصدر السلطات وتنفيذ ما جاء في وثيقة اعلان الأستقلال حول ذلك ونصوصها الاخرى من تفاصيل مكون هويتنا الوطنية وروايتنا ، بهدف تكريس وطن واحد عِبر برلمان واحد وحكومة واحدة قادرة على التواصل الدولي وحماية وانقاذ شعبنا وتمكين صموده ، من اجل استمرار مسيرتنا الوطنية التحررية الجامعة والتي لم تصل الى تحقيق اهدافها بعد ، وذلك أمام الواقع الجديد الناشئ بجرأة وصراحة مع الذات وتغليب مصالح الوطن العليا على أي أعتبار اَخر .
فلا أحد منا يمتلك حق مصادرة الحقوق الأساسية لشعب قدم مسلسل طويل من التضحيات منذ مئة عام وحتى اليوم في سبيل حريته ببعدها الإنساني والتي أتت بتضامن معظم الشعوب أن لم تكن جميعها معنا اليوم ، وكلٌ منهم في مكانه في هذا العالم يُحدث به المتغيرات نحو عالم افضل للجميع .
أن مصداقية التعاطي مع هذا التضامن تكمن في فهم منطلقاته بالأساس الذي لم يقتصر على طرف من الأطراف ، هو تضامن مع كل شعبنا الذي يستهدفه مشروع الاحتلال الاستعماري ، ومع عدالة قضيتنا المغيبة منذ ٧٥ عاماً .
هو تضامن مع شعبنا كله في غزة وجنين وبيت لحم ورفح والقدس ، بل وفي الناصرة ويافا وحيفا والنقب .
انها الفرصة اليوم مرة اخرى امامنا التي تستوجب ضرورات تواصل الأجيال ، وأن نُعيد تأكيد تقديم أنفسنا لهذا العالم بأننا شعب ما زال يستكمل مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي لينتصر على مخالب احتلال استيطاني عنصري ذو فوقية دينية الذي يرفض مبداء السلام والأستقرار ، بل يمارس ابشع صور القهر والإرهاب المنظم .
أن هذه الشعوب قد ابتعدت عنا لفترة من الزمن أو تغيبت عن اشكال التضامن معنا التي نشاهد نموها الان ، نتيجة ما أوهمنا انفسنا نحن به وقدمناه للعالم بأننا نسير في عملية سلام ونعمل على بناء التنمية المستدامة ومؤسسات الدولة العتيدة ، الأمر الذي كان وما زال غير ممكنا في ظل هذا الأحتلال الأستيطاني الذي مارس تدميرها واستمرار السيطرة على الأرض بتوسيع الاستيطان وتهويدها وارتكاب الفظائع التي لم يشهد العصر الحديث لها مثيلا بالمفهوم النسبي ، وذلك بما يتفق مع رؤيته منذ مؤتمر بازل واهدافه دون ان يتغير في ذلك شيئا سوى مزيدا من الحقد والكراهية المطلقة ضد غيرهم .