بعد التطورات الأخيرة في ملف تبادل الأسرى والهدنة المؤقتة وإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، تبرز تساؤلات في الرأي العام الإسرائيلي حول ما يسمى «خطر» إطالة الهدنة إلى درجة تحوّلها إلى وقف إطلاق نار وتعطيل مواصلة العدوان الإسرائيلي على غزة. ويحاول نتنياهو ومن معه طمأنة الإسرائيليين بأن الحرب مستمرة حتى تحقيق أهدافها، بما فيها اقتحام جنوب القطاع، ويقول: «السؤال ليس هل، بل متى سيقتحم الجيش الإسرائيلي خان يونس». الإدارة الأمريكية من جهتها تفاخر بدورها «الإنساني» في التوصل إلى الصفقة وإلى الوقف المؤقت للقتال، لكنّها تصر على رفض وقف إطلاق النار، بادعاء «حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها وضرورة القضاء على قدرة حماس على تهديد أمن إسرائيل ومواطنيها»، كما يكرر بايدن وجوقة إدارته.
وعلى الرغم من هذا العناد الإجرامي الأمريكي الإسرائيلي، فإنّ نافذة الهدنة المؤقتة هي فرصة قد لا تتكرر لتفعيل الضغط على الولايات المتحدة لتغيّر موقفها، فالقضية ليست حربا على حماس، كما تدعي، بل هي حرب على أهل فلسطين جميعا بمن فيهم الأطفال والنساء والشيوخ والمواطنون العزّل في غزة. وهذا يستوجب تحركا عربيا جديا وحازما ومؤثّرا، يطال المصالح الأمريكية الاستراتيجية في العالمين العربي والإسلامي.
الإدارة الأمريكية لن تغير موقفها إلّا إذا شعرت بأنّها تخسر عند العرب أكثر مما تربح عند إسرائيل. هذا ممكن، وإذا لم يحدث فإن إسرائيل ستمضي في حرب الدمار الشامل، التي اجتازت عتبة الإبادة الجماعية، كما يقول الكثير من المتخصصين بشأن حروب الإبادة. في هذه الظروف الصعبة والعصيبة لا يكفي أن تتبنى الولايات المتحدة وقف إطلاق النار وتدعو إليه، وهناك حاجة لتفعيل ضغوط غير مسبوقة على الدولة الصهيونية، لأن قيادتها التزمت بالمحاربة حتى النهاية، وسترفض بالتأكيد الدعوة والطلب، لكنها ستخضع للضغط، إذا مورس الضغط الفعلي عليها. وعلى الرغم من كل الهالة حول شخصية نتنياهو، فهو ليس قائدا سياسيا قويا كما يشاع، بل هو قابل للخنوع والرضوخ، إذا جرى حشره في الزاوية وكبسه كما يجب. الولايات المتحدة تستطيع فعل ذلك لكنها لا تريد، والعرب قادرون على جعل الولايات المتحدة تريد، إن هم أرادوا فعلا، وإن هم على استعداد لدفع ثمن إرادتهم، وهو بالمناسبة ليس باهظا.
الموقف الأمريكي
أقصى ما وصل إليه الموقف الأمريكي إلى الآن، هو تسريب صحافي إلى «وول ستريت جورنال» عن «إحساس بالقلق» لدى الإدارة الأمريكية من تداعيات ازدياد الضحايا الفلسطينيين في الحرب على غزة. سبق ذلك إعلان موقف أنّ على إسرائيل الالتزام بالقانون الدولي الإنساني خلال الحرب، مع غمزة بأن «علينا أن نقول ولكم أن تفعلوا ما شئتم»، بدليل أن هذه الإدارة لم تنبس حتى بكلمة انتقاد واحدة للمجازر الرهيبة التي ترتكبها حليفتها. ما قاله الرئيس الأمريكي جو بايدن، لا يعني دعوة فعلية للالتزام بالقانون الدولي، فهو عمليا فاقد للمعنى والقيمة في ظل التعامل الانتقائي معه، واستبداله بامتيازات الهيمنة الأمريكية، التي تحدد من له الحق في استعمال القوة والعنف. ويتضح أكثر فأكثر البون الشاسع بين القانون الدولي، الذي يمنح الحق في النضال ضد الاحتلال، والقانون الاستعماري الذي يحرّم ذلك ويشرعن «الحق» ذبح الأطفال باسم محاربة «الإرهاب». في مقال له في «ذا نيشن» الأسبوع الماضي، أوضح الصحافي سبنسر أكرمان، الحائز جائزة بوليتزر ومؤلف كتاب «عهد الإرهاب: كيف زعزعت حقبة 11 سبتمبر استقرار أمريكا وأفرزت ترامب»، أن إسرائيل تفعل ما تشاء في غزة لأنها «تدرك أن لديها ما هو أقوى من القانون الدولي: حماية النظام الدولي القائم على القواعد (أر. بي. آي. أو)» وأضاف، «والآن يرى العالم إسرائيل إذ تبيد غزة بالأسلحة والدعم الدبلوماسي من أمريكا. ويكشف بايدن ونتنياهو حقيقة النظام الدولي القائم على القواعد: فما هو بعالم الحرية في ظل القانون وإنما هو مقبرة جماعية». قواعد هذا النظام العالمي، تحددها الولايات المتحدة، ومذابح إسرائيل في غزة لا تتجاوز هذه القواعد، لقد تبنت الإدارة الأمريكية مفهوما بديلا للعلاقات الدولية هو «النظام القائم على القواعد»، ولا يجد الرئيس الأمريكي، جو بايدن، تناقضا أو حرجا في إدانة ومواجهة ما تفعله روسيا في أوكرانيا ودعم ومساندة ما تقوم به إسرائيل في غزة، انطلاقا من هذا المفهوم ذاته، الذي لا يخرج عن طوع ونطاق وإطار السياسة الأمريكية.
بايدن بين دعم القتل وانتقاد الاستيطان
خلال كل حياته السياسية، الممتدة على مدى خمسين عاما، يواظب جو بايدن على مساندة ودعم حروب إسرائيل لحماس وبلا تحفظ. وفي مقال له في «ذا إنترسيبت» الأسبوع الماضي، سرد الكاتب الصحافي جيرمي سكاهيل، ما حدث خلال مداخلة رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغين في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي في يونيو/حزيران 1982، بخصوص الحرب على لبنان تلك الأيام. وقد أحرج السيناتور (حينها) جو بايدن، حتى رئيس الوزراء الإسرائيلي، حين هاجم كل من انتقد استهداف المدنيين وألقى خطابا حماسيا قال فيه إنه «كان سيذهب أبعد من إسرائيل في صد أي اعتداء حتى لو كان معنى ذلك قتل الأطفال والنساء». بيغن من جهته نأى بنفسه عن كلام بايدن مدعيا أن بلاده تحرص على قيمها ولا تستهدف الأطفال والنساء. خلال الزيارة نفسها، حدث توتر وجرى نقاش حاد بين بايدن وبيغن بخصوص الاستيطان، ومن حينها يعرّف بايدن إسرائيليا بأنه صديق الدولة الصهيونية الذي يعارض الاستيطان. هو في الحقيقة ليس مجرد صديق، بل يصر على الانتماء الكامل بالقول: «يمكن أن تكون صهيونيا دون ان تكون يهوديا». ولا ينسى أن يتغنّى بالديمقراطية الإسرائيلية، التي تقرر بشكل ديمقراطي ذبح أطفال غزة، ويا لها من ديمقراطية دموية! ما زال بايدن على الموقف القديم نفسه، فهو يدعم آلة القتل والمجازر الإسرائيلية، ويتجنّد بالكامل لحمايتها من أي نقد تحت شعار أنها «تمارس حق وواجب الدفاع عن النفس». وهو لا يكتفي بالدعم السياسي واللفظي، بل يدفع بكل قوة الإمبراطورية الأمريكية لمساعدة ومشاركة إسرائيل في حربها الضروس على أطفال غزة، الذين لم يحظوا حتى بكلمة أمريكية واحدة عن حقّهم في الحياة. في المقابل يجتر بايدن «حل الدولتين» ويدفع ضريبة كلامية بشأن معارضة الاستيطان مع إضافة التوضيح بأنّه «خلاف بين أصدقاء». ولكنه لا يلتزم حتى بهذه المعارضة، فقد صوتت الولايات المتحدة مؤخرا ضد مشروع قرار يعتبر الاستيطان غير قانوني، الذي جرى تمريره في الجمعية العمومية بمعارضة أمريكية انضمت اليها خمس دول فقط.
الدول العربية تستطيع
لا يمكن الاكتفاء بالادعاء بأن الولايات المتحدة منحازة لإسرائيل، بل هي شريكة كاملة في الحرب القذرة على غزة. هي تفعل ذلك لأنها مقتنعة بأنها لا تدفع الثمن عربيا، وهذه شهادة بؤس للنظام العربي القائم، الذي يتصنّع قلة الحيلة في وقف العدوان الإسرائيلي، ويدعي العجز في فرض وقف لإطلاق النار. هذا كلام يجافي المنطق والأخلاق ولا يستوي مع وزن الأمة العربية وثقل دولها. الأيام القريبة هي فرصة مهمة للتأثير عبر استثمار الهدنة وحشد الدعم للجم العدوان ووقف إطلاق النار، وتفعيل ضغوط كابسة على الولايات المتحدة وإسرائيل للقبول بذلك. وعند العرب أدوات قوية جدا، وجب وآن تفعيلها، وعدم الاكتفاء بانتظار مآلات التفاعلات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة الضاغطة على إدارة بايدن.
بإمكان الدول العربية توجيه إنذار إلى الولايات المتحدة بأنها إذا لم توقف العدوان الإسرائيلي فعليها إخلاء كل القواعد العسكرية الأمريكية في الدول العربية وهي كثيرة.. بإمكانها أيضا تفعيل سلاح النفط. وبإمكانها كذلك سحب السفراء وقطع العلاقات وشطب التطبيع القائم والمحتمل مع الدولة الصهيونية، إن هي استمرت في الحرب. وبإمكان القيادة الفلسطينية المساهمة في الدفاع عن غزة، عبر التوصل سريعا إلى وحدة وطنية ووقف التنسيق الأمني، وممارسة حق الدفاع عن النفس ضد اعتداءات المستوطنين على الأقل، وبإمكان الدول العربية تنفيذ قراراتها بشأن إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة شاءت إسرائيل أم أبت، بإمكان العرب أن يفعلوا الكثير إن هم شاءوا، فالولايات المتحدة ليست كلية القدرة وإسرائيل قابلة للضغط، إذا جاء الضغط. بإمكانهم حقا، وعليهم الكف عن ترديد النداء القاتل، الذي دوّنه محمود درويش في رائعته الصادمة «القربان»:
لا تنكسر! لا تنتصر. كن بين -بين معلقا.
فإذا انكسرت كسرتنا. وإذا انتصرت كسرتنا