تواصل حكومة الحرب الإسرائيلية عدوانها على غزة للأسبوع الرابع، دون أفق مرئي لوقف هذه الوحشية الانتقامية، التي يقودها نتنياهو ضد المدنيين الفلسطينيين، والبنية التحتية المدنية من مساكن، ودور العبادة والمدارس والمستشفيات التي تخرج تباعاً عن إمكانية تقديم خدماتها الصحية بفعل القصف تارة ونفاد الأدوات والمواد الطبية تارة أخرى، هذا بالإضافة للاستمرار في قطع الكهرباء والماء والوقود والغذاء.
نتنياهو الذي يخوض حربه، كأنها حرب وجودية لإسرائيل «نحن أو هم»، غير آبه ليس بارتكاب جرائم الحرب التي عددها المدعي العام للمحكمة الجنائية في مؤتمرة الصحافي، الأحد الماضي في القاهرة، ولا يأبه بالخسائر البشرية التي ستلحق بقواته والأسرى المحتجزين لدى المقاومة. فكل ما يحركه التعطش لدماء الأطفال والنساء والأبرياء، معتقداً بأن ذلك قد ينقذه من السجن، والتبرؤ من مسؤوليته عن الفشل السياسي والاستخباراتي الذي صدم مكونات المنظومتين السياسية والأمنية يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. يجري ذلك كله في وقت يستمر فيه الغطاء الدولي لدرجة ترويج أكاذيب نتنياهو حول قطع رؤوس أطفال واغتصاب نساء، والتنصل من جريمة مستشفى المعمداني الأهلي، التي تتواصل مع مستشفيات أخرى يخطط لضربها، من دون اعتذار عندما تم دحض هذه الأكاذيب وفضحها. ولذر الرماد في عيون الرأي العام الدولي ومعارضي الحرب في الولايات المتحدة وداخل التيار التقدمي لحزبه الديمقراطي، يحاول بايدن دعوة نتنياهو للالتزام بقوانين الحرب، وبالقانون الدولي الإنساني، وتمرير بعض المساعدات الإنسانية، من دون مساءلة نتنياهو وجيشه عن ارتكاب جرائم حرب مكتملة الأركان على الهواء مباشرة، الأمر الذي يشجعهم على الاستمرار بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
الكارثة الإنسانية التي يعيشها أهلنا في غزة، والإبادة الجماعية لعائلات بأكملها تجاوزت كل الحدود، تزيدان الناس صلابة أمام جنون آلة القتل والإبادة، في وقت لا تقوم فيه السياسة الفلسطينية الرسمية بما تمليه عليها مسؤوليتها في التصدي لذرائع العدوان، تمهيداً لإسقاط الحرب وكل أهدافها التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية.
القدرة على الصمود الأسطوري التي يبديها شعبنا في القطاع ومقاوموه، تبدو أنها تتحرك في سماء مكشوفة دون ما يكفي من تصدٍ سياسي لمقولات عدوانية الحرب بما يتناسب معها، ومع صرخات الضحايا والناجين الذين باتوا في العراء، ومع ذلك يقولون «لن نرحل» في تعبير مملوء بالألم عن الكيل الذي فاض بهم من الظلم والعذاب والحروب المتكررة على مدى سنوات طويلة، ولسان حالهم يصرخ «الحرية أو الموت».
إذاً، فإن الثغرة الماثلة في مواجهة دموية هذه الحرب، تتمثل في استمرار طغيان مصالح الانقسام على التضحيات الهائلة التي يواجهها أهلنا في غزة، رغم المنعطف غير المسبوق لهذه الحرب التي تعمل إسرائيل بأن تفضي لتصفية قضية وحقوق شعبنا، في حين أن وحدة الموقف السياسي وصلابة الميدان قد تكونان مدخلاً واقعياً لإنهاء الاحتلال والظلم والمعاناة التي ألمح إليها غوتيريش، وبما يمكّن شعبنا من استرداد حريته وكرامته وأمته، وأن يمارس حقه في تقرير مصيره على أرض وطنه.
والسؤال الذي يتردد على ألسنة الناس هو: هل غياب هذا الموقف يعود لعدم القدرة على فعل شيء والقصور عن رؤية الأهداف الاستراتيجية لهذه الحرب، التي تستهدف الجميع؟ أم أنه انتظار وهم ما تلقيه إدارة بايدن لها؟
في سياق التصدي لهذه المخاطر وتعرية لزيف ذرائع هذه الحرب يمكن النظر للأفكار المهمة التي قدمها سلام فياض ونشرتها صحيفة «الشرق الأوسط» لمواجهة وفضح مقولة وسم «حماس» بالإرهاب الداعشي والنازي، والتأكيد على أن جوهر المشكلة التي أدت لانفجار السابع من أكتوبر الماضي يتمثل بالاحتلال والظلم الذي يعاني منه شعبنا على مدار ما يزيد على سبعة عقود، ترافقت مع انحياز الدول الكبرى للعدوانية الإسرائيلية التي قضت على إمكانية التوصل لتسوية عادلة ترتكز على الإقرار بحق شعبنا في تقرير مصيره، وعجز هذه الدول عن مراجعة أسباب هذا الفشل الذريع الذي بات يهدد استقرار المنطقة برمتها.
السؤال الآخر الذي لا بد من التصدي له يتعلق بمسؤولية القيادة الفلسطينية عن هذا الفشل. فعلى الرغم من اتضاح أن هذه الأطراف الدولية لا تملك في جعبتها حتى اللحظة سوى الكلام الأجوف عن حل الدولتين، فإنها تدعم إسرائيل في حربها على المدنيين في القطاع في سياق خطة قديمة جديدة لتهجيرهم، وتصمت على ابتلاع الأرض الفلسطينية الذي يسير على قدم وساق من قبل حكومة الإرهاب.
إذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك فلماذا استمرار اللهاث وراء فتات واشنطن، وما يرافقه من صمت يفاقم من عزلة السلطة والقيادة الرسمية، وتبدو أنها عاجزة عن فعل شيء، بينما كان ولا يزال بإمكان الرئيس أبو مازن بدلاً من الصمت على دعوة ماكرون لتشكيل تحالف دولي إقليمي لمحاربة «حماس»، كما جرى مع «داعش»، متبنياً رواية نتنياهو الزائفة، بأن يخرج الرئيس منتصراً للضحايا، ويعلن رفضه القاطع لهذه الدعوة التي تغطي حرب الإبادة، وأن يؤكد أن لشعبنا أيضاً حق الدفاع عن نفسه، وأن حركة «حماس» وقوى المقاومة ورغم التباين معها، فإننا نرفض وسمها بالإرهاب والداعشية والنازية، التي في الواقع هي ممارسات إسرائيلية، بما في ذلك ما يرتكبه دواعش المستوطنين الإرهابيين بدعم من حكومة الحرب التي تسلحهم لقتل مزيد من المدنيين والاستيلاء على أرضهم وممتلكاتهم. مثل هذا الموقف الذي لم يعد يحتمل التأجيل، سيؤسس لخطة سياسية موحدة تفتح الباب لتفكيك ذرائع الحرب ووقفها، ويمكن البدء بخطوات ملموسة لاستعادة مكانة ودور المؤسسات الوطنية الجامعة بوصفها ائتلافاً وطنياً على صعيد المنظمة والسلطة، ومن ناحية أخرى على القيادتين السياسيتين لحركتي «حماس» و«الجهاد» أن تتقدما نحو متطلبات إنهاء الانقسام وتعزيز دور ومكانة الشرعية الموحدة بدخول منظمة «التحرير» واستعادة مكانتها بوصفها ائتلافاً وطنياً، بدلاً من الصراع عليها. فإغلاق هذه الثغرة اليوم سيمكّن من النهوض بالموقف الفلسطيني ومعه الموقف والدور العربي نحو وقف الحرب بوصف ذلك مقدمة واقعية وحتمية لإنهاء الاحتلال وتمكين شعبنا من ممارسة حقه في تقرير المصير في دولة مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس على جميع الأراضي التي احتُلت في عدوان الخامس من يونيو (حزيران) 1967، وهذا يجب أن يكون الشرط الفلسطيني والعربي الأول الذي على إسرائيل وحلفائها الإقرار المسبق به لأي عملية سياسية جادة في المستقبل تضمن إنهاء الاحتلال واسترداد شعبنا لحقوقه كما عرفتها الشرعية الدولية.