في ذكرى أوسلو.. لا طريق غير النضال!
|
منذ دخلت الكنيست سنة 2015 ومع بداية كل دورة برلمانية كنت أجري حوارات شخصية مع رموز اليمين التقليدي والاستيطاني. كنت أسألهم عن أسوأ ما أصاب إسرائيل منذ تأسيسها؟ فكان يأتيني من الجميع، وحدانا وزرافات، جوابٌ من كلمة واحدة تُطلق بحدّة وسُرعة مثل الرصاصة: أوسلو!
أوسلو قاتل قائديه: رابين وعرفات، مُضعف حزبيْه: العمل وفتح، والمُحبِط لغالبية أبناء الشعبين حسب استطلاعات الشهر الأخير. يمكن الحكم على أوسلو بأوجه عدّة منها الاتفاق ذاته ومنها السياق ومنها الخلل البنيوي بالاعتراف بإسرائيل مقابل الاعتراف بالمنظمة ممثلا للشعب الفلسطيني، ومنها موقف القائد الشهم حيدر عبد الشافي بضرورة وقف كل الاستيطان كشرط أساسيّ. لكن على أهمية كل المذكور أعلاه، فلا يمكن الحُكم على أوسلو جوهريًا إلا بالإجابة الحادّة على السؤال: هل كان من الممكن أن يُفضي إلى إقامة دولة فلسطينية بحدود العام 1967 أم لا؟
للإجابة على هذا السؤال شُغلت بالشهر الأخير بقراءة مستندات المفاوضات في كامب ديفيد 2000، معايير كلينتون ديسمبر 2000، طابا 2001 ومحادثات الرئيسين محمود عباس وأولمرت 2008. وخلصت إلى أنّ كل من يرى بأن الحلّ السياسي يقتضي إقامة الدولة الواحدة وتبرّؤ غالبية المجتمع الإسرائيلي من صهيونيته وعودة كل اللاجئين إلى ذات بيوتهم وقراهم ومدنهم فلن يجد الحلّ في هذه المفاوضات، ولكن كل من يرى أن الحلّ الممكن هو إقامة دولة فلسطين في حدود 1967 إلى جانب إسرائيل والسعي لإيجاد حلّ لقضية اللاجئين يستندّ إلى أرضية عادلة وأخلاقية بناء على المواثيق الدولية، فلا بدّ أن يعترف أن السنوات 2000، 2001 و2008 أرست أسسًا لذلك.
*
الخمسة عشر عامًا الأولى (1993- 2008) جاءت بآمال عظيمة مثل تشكيل نواة الدولة، عودة أربعمئة ألف لاجئ إلى الوطن تضاعف اليوم عددهم مع أقربائهم، واقتراب المفاوضات مرّتين إلى إمكانية إقامة الدولة. ولكنّها غرست أيضًا جراحًا غائرة مثل جرائم المحتلّ خاصة بالانتفاضة الثانية، جدار الفصل العنصري وتكثيف الاستيطان. أمّا الخمس عشرة سنة الأخيرة (2008 – 2023) فقد كانت السمة الأساسية فيها هي الإحباط والنكوص، فهي سنوات الانقسام الفلسطينيّ الكارثيّ، "الربيع العربي" المُشرق ببداياته الخاطفة والمأساويّ المسيرة والنهايات، ومرحلة نتنياهو خاصة بتزامنها مع مرحلة ترامب وصفقة القرن، والتطبيع العربيّ الخانق، توغّل الاستيطان واستباحة الدم الفلسطيني. لم يحقّق الفلسطينيون بهذه المرحلة سوى الوقوف المشرّف، تقريبًا لوحدهم، بمواجهة صفقة القرن والرئيس الأمريكي الهائج، وبعض الإنجازات الدولية الهامّة كاعتراف الأمم المتحدة بالدولة المراقب والنكبة الفلسطينية والقرار الأممي 2334 قويّ الصياغة، التي حتى أمريكا أخر زمن أوباما دعته يمرّ.
وبالمقابل فعلى الجهة الإسرائيلية، فأوسلو اخترق المجتمع الإسرائيلي عموديًا إلى شبه نصفين، وبلغ الاستقطاب الحادّ إلى قتل يتسحاق رابين رئيس الحكومة وأحد أبرز القادة المؤسسين والعسكريين. واستمرّ هذا الصراع الداخلي الإسرائيلي إلى اليوم وإن بدّل أشكاله، ولكن الجوهر بقي واحدًا وهو أن الاحتلال ووقائع أوسلو ما زالت تشكّل التفاعل الخلافيّ الأعمق طيلة السنوات الثلاثين وآخرها هذا الاصطفاف الشعبي الإسرائيلي الحادّ بالأشهر التسعة الأخيرة، تحت غطاء الانقلاب القضائي ومقدّمته السيطرة على المحكمة العُليا، لكنّ جوهره الصراع على القضية الفلسطينية، على ما أنشأه أوسلو.
الخلاف الأكثر بروزًا بالأشهر الأخيرة يبدو حول المحكمة العليا. وإذا سألت أي فلسطينيّ عن موقفه من المحكمة العليا لأجاب بصدق بأنها عنصرية وتشرعن جرائم حكّام إسرائيل. ولكنّ لو كان هذا التوصيف شاملا ومطلقًا، فأوجب علينا الجواب على السؤال الضروري: إذًا لماذا يسعى اليمين لتقويضها، أو لتغييرها بالحدّ الأدنى؟ لماذا سموتريتش صاحب "مخطّط الحسم" يقود هذه المعركة وبحدّة ومثابرة بالأسابيع الأخيرة؟ المحكمة العليا عنصرية جوهرانيًا ولكنها تعارض اليمين التقليدي والاستيطاني بثلاثة أمور وهي: شطب الأحزاب التي تمثّل الفلسطينيين في إسرائيل، سرقة أراضٍ خاصة للفلسطينيين وشرعنة البؤر الاستيطانية. اليمين التقليدي والاستيطاني بحاجة لتغيير المحكمة العليا من أجل البقاء في الحكم، ضمّ منطقة C ومنع إقامة دولة فلسطينية. أو بكلمات أخرى من أجل القضاء نهائيًا على أوسلو.
اللافت أن نسبة اليهود الإسرائيليين المؤيدة لإنهاء الصراع على أساس دولتين بحدود 1967 والتي ارتفعت بشكل حاد منذ نهاية الثمانينات حتى مرحلة أوسلو الأولى، حافظت على قاعدتها وعلى ذات الانقسام القاعديّ بين المعسكرين، فوفق مقياس السلام من جامعة تل أبيب (آذار 2023) فإنّ 39% من اليهود الإسرائيليين يؤيدون إنهاء الصراع على أساس حلّ الدولتين بحدود الـ67. وإن كانت هذه النتيجة مشجّعة في ظلّ الخمس عشرة سنة الأخيرة المُحبطة، ولكنّ الاستطلاع لم يسأل سؤالًا هامًا إضافيًا يُعنى بالفجوة بين الاستعداد المبدئي للحلّ، وبين الاستعداد لدفع ثمن الحلّ إلى درجة الصراع مع اليمين والمستوطنين. هذه الفجوة لن تُغلق إلا بالنضال الفلسطيني. أو حين يصبح الاحتلال مكلفًا. وهذه هي الاستراتيجية الوحيدة الحاسمة للصراع.
أيقظَتْ الأشهر الأخيرة قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي بأنه ليست إسرائيل هي التي تستوطن في الضفة وحسب، وإنما الاستيطان بثقافته الديكتاتورية يستوطن داخل المجتمع الإسرائيلي، وهو الذي يقود الآن الانقلاب القضائي وعبر رزمة القوانين المُشهرة فهو يقود انقلابًا في النظام بأسره. وأكثر ما يعنينا، بهذه المسألة، هو كيف نستفيد من وضوح العلاقة بين الاستيطان والاحتلال وبين الانقلاب القضائي؟ كيف نستفيد من الغضب المتراكم نحو اليمين والمستوطنين؟ كيف نستفيد من الحقيقة أن الانتخابات كثيرًا ما تفعل فعل الأرجوحة، فإذا شدّها اليمين بفظاظة نحو اليمين فتُشدّ بقوة للجهة المقابلة، كيف أن المستوطنين والحريديم صوّتوا بالانتخابات السابقة فوق الـ90% بينما جمهور المركز- يسار والعرب صوّت معًا أقل من 65%، ويكفي أن نرى انتخابات نقابة المحامين (حزيران 2023) كيف أن جمهور المركز يسار والمحامين العرب صوّتوا أضعاف المرات السابقة وسحقوا مرشّح اليمين؟ كيف نستفيد من إدارة ظهر الحكومة الإسرائيلية المنتخبة لمليون متظاهر عنيد طيلة تسعة أشهر، فلمَ لا تدير الحكومات القادمة ظهرَها لبضع عشرات أو مئات آلاف المتظاهرين من اليمين والمستوطنين؟!
• النضال الأخير من أجل الدولة.
فرض أوسلو واقعًا، به الكثير من الأخطاء والخطايا نظريًا وممارسةً، ولكنّه حقّق أربعة إنجازات جذرية:
1. فرضَ نواة الدولة الفلسطينية، وأعاد مئات آلاف اللاجئين.
2. فرضَ حدود الدولة الفلسطينية بإجماع دوليّ شبه تامّ لا نظير له قبل أوسلو.
3. اخترق المجتمع الإسرائيلي بشكل عميق ومثابر.
4. وصل بالمفاوضات الأكثر متقدمة (مفاوضات أولمرت- أبو مازن سنة 2008) إلى حدود الـ67، يشمل 98% من القدس الشرقية.
بعد هذا كلّه بقي العامل الذاتي هو المقرّر وفي صلبه:
- إنهاء الانقسام وتجديد النضال الشعبي الشمولي ضد الاحتلال، هذا هو واجب شعبنا وقيادته في مناطق احتلال الـ1967.
- توسيع الشراكة اليهودية العربية ضد الاحتلال وتعميق الأزمة في إسرائيل حتى انهاء الاحتلال، وهذا هو واجب الفلسطينيين واليهود مناصري السلام داخل إسرائيل.
مرّة أخرى، الآن ودائمًا. فقط عندما يُصبح الاحتلال مُكلفًا، عندها، سينتهي الاحتلال!
|
|
|
|
|