تعقيدات المشهد الفلسطيني والصراع الانقسامي على النفوذ والشرعية، وعلى مقدرات الشعب الفلسطيني للاستفراد بالقرار والمصير الوطنيين، يجعل من مهمة اعادة بناء حركة وطنية جديدة مهمة صعبة، لكنها بالتأكيد ليست مستحيلة، بل، إن هذا الواقع، الذي وصلنا إليه، يفرض على القوى الاجتماعية المهمشة والمتضررة، وهي اليوم تشكل الاغلبية الساحقة من الفلسطينيين، أن تأخذ المسؤولية على عاتقها من أجل بلورة السبل الكفيلة لاستعادة زمام المبادرة، و انقاذ مصالحها ومصيرها الوطني في هذه البلاد.
ضخامة هذه التعقيدات تستدعي البحث الجدي في سبل توحيد الجهود، وفي وسائل وأوليات الكفاح الوطني والاجتماعي،وبما يُمَكّن من تعبئة الأغلبية الشعبية وتنظيم انخراطها في عملية التغيير، بعيداً عن مجرد ردات الفعل الفردية والمحدودة. فالظروف الموضوعية ناضجة وملتهبة، وقد تنفجر في أي لحظة وربما تؤدي إلى مزيد من انهيار وتفكك المجتمع ،سيما أنه وللأسف ما زالت العوامل الذاتية ضعيفة وتتسم بالشرذمة، وتفتقر للبنى الاجتماعية والسياسية القادرة على قيادة مثل هذا الانفجار، وضمان تحوّله إلى كتلة شعبية متنامية نحو مهام التغيير الوطني والديمقراطي.
صحيح أن حجم الجرائم التي يمارسها الاحتلال، استدعت قيام نخبة من الشباب بأشكال من المقاومة في اطار الدفاع عن النفس . وهذا طبيعي، بل و يعتبر غريزة انسانية مشروعة. إلا أن تجربة الشعب الفلسطيني ذاتها تقول وبصراحة، أن وسائل النضال الأكثر جدوى هي تلك التي تحظى بالاجماع الوطني وتلتف حولها الأغلبية الشعبية، ليس فقط إزاء تأييدها المعنوي والعاطفي، بل وإزاء قدرة هذه الأغلبية على الانخراط فيها. ورغم أنه في واقع شعب يعاني يومياً من الاحتلال وجرائم مستوطنيه، لا يمكن لأي حركة تغيير أن تعزل نفسها عن المهام الوطنية المباشرة في مقاومة الاحتلال ، فهذا يشكل الشرط الأساسي لنجاح امكانية بناء حركة وطنية ذات طابع شعبي، إلا أن الأولوية التي تستدعي جهداً استثنائياً، وبصورة مترابطة مع هذا الشرط، تكمن في تنظيم البنى الاجتماعية وتطوير أدواتها الكفاحية، بما فيها المقاومة الشعبية التي ينخرط في ميدانها الأغلبية الشعبية وفي مقدمتهم الشباب،وبما يشمل التفكير في انشاء الحرس الشعبي ولجان الحماية الشعبية لمواجهة اعتداءات وجرائم المستوطنين، وبما لا يقتصر فقط على نخبة من المناضلين المستعدين للتضحية بأرواحهم في سبيل الوطن وحرية الشعب. كما أن التجربة الفلسطينية تؤكد أيضاً أن القوة الأساسية التي تقدمت وتتقدم الصفوف دوماً هي من قطاع الشباب،سيما الذين ينتمون للطبقات الاجتماعية الأكثر اضطهاداً وتضرراً و وعياً لضرورة ومتطلبات التغيير.
هناك قضايا عديدة تستدعي تطوير مبادرات شبابية، وبمشاركة من قوى اجتماعية أخري لها مصلحة في التغيير، أبرزها حالة تغييب الديمقراطية، وتهميش إن لم يكن اختفاء المؤسسات الوطنية التمثيلية، والتفرد في اتخاذ القرار، وما يصاحب ذلك من مظاهر سوء الحكم والادارة وتفشي الفساد والمحسوبية. كما أنه لابد من ابداع أشكال كفاحية واستراتيجية واضحة للدفاع عن القدس والتصدي لمحاولات تهويدها وعزلها عن محيطها ، بالاضافة إلى مهمات التصدي للحصار المفروض على قطاع غزة، وما يلحقه من مظاهر بالغة الخطورة سيما في أوساط الشباب الذين يعانون من شتى أنواع القهر والاحباط والشعور بالعزلة الوطنية.
ذلك كله يضع أمام الشباب والقوى الاجتماعية الأخرى مسؤولية توليد معارضة تطرح مشروعاً وطنياً جامعاً، وترسيخ التمسك بالرواية التاريخية الفلسطينية،ومتطلبات صون الهوية الوطنية الجامعة.
في مقدمة الدراسة الصادرة عن مركز الأرض بعنوان" نحو حركة شبابية اجتماعية تقدمية" تلفت الدراسة، التي أشرف عليها عالم الاجتماع جميل هلال، الانتباه إلى أن عدداً وافراً من المثقفين الفلسطينيين الفاعلين في ميادين الثقافة المختلفة، ومن المؤرخين والمفكرين المجتهدين، تبنى ويتبنى قيم ديمقراطية تحررية وعلمانية "أي فصل الدين عن الدولة". ويقول هلال :"هذه السمة للثقافة الفلسطينية ظهرت مبكراً "قبل أكثر من قرن من الزمن"، وشكلت إحدى أبرز سمات الحركة الوطنية الفلسطينية، والتي حرصت منذ بداية تشكيلها في عشرينات القرن الماضي على تأكيد طابعها الوطني العلماني في مواجهة الحركة الصهيونية التي تبنّت سردية دينية. الرؤية العلمانية تراجعت بعد اتفاق أوسلو وتهميش منظمة التحرير والتحولات التي شهدها الإقليم والعالم منذ عقد الثمانينيات، وهي تحولات سوّغت استخدام الدين في خدمة مصالح نخب حاكمة، واستخدامه كأيديولوجية لتسويغ الاستبداد والفساد من قبل نخب متنفذة".
إن هذه الاستراتيجية البديلة تفرض على جيل الشباب الفلسطيني في مواقعه المختلفة التمسك بقيم التحرر والمساواة والعدالة وتشجيع الثقافة الديمقراطية التقدمية وحمايتها، وهو ما اعتمدته، بشكل عام، الحركة الوطنية الفلسطينية، قبل تفككها وعزلها عن دورها الوطني والاجتماعي، في سياق مبرر وجودها وهو الدفاع عن الحقوق الوطنية ومصالح القطاعات الشعبية المختلفة.
مع تفكك الحقل السياسي الفلسطيني إلى حقول محلية، والانسداد الذي يمر به مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على أراضي الضفة وقطاع غزة وفق مسار تسوية أوسلو، برز في العقدين الأخيرين حضور ثقافي فلسطيني نشط في مختلف المجالات الثقافية والفنية، وأيضاً في مجال الأبحاث والدراسات، بمساهمات شبابية ملحوظة، وتواجد كثيف للشباب كطلبة في الجامعات، والشباب في مراكز البحث والتفكير والدراسات الاستراتيجية. كما برز دور الشباب في مبادرات وحراكات وأنشطة مختلفة في التجمعات الفلسطينية الرئيسية. وهو أمر بالتأكيد ترك ويترك آثاره على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الفلسطينية عموماً، ويشكل خميرة صالحة لاستنباط مثل هذه الرؤية وبلورة استراتيجية بديلة ، الأمر الذي يستدعي من قوى التغيير ذاتها وفي مقدمتها الشباب توحيد مبادراتها وحراكاتها ومجمل جهودها في مسار وطني ديمقراطي وفق أولويات اجتماعية وكفاحية يحددونها هم بالتعاون مع القوى الاجتماعية ذات المصلحة المشتركة، وبحيث تراكم عناصر القوة التي تمكنها من التقدم الملموس باتجاه التغيير الديمقراطي، من خلال التصدي لهذه القضايا وغيرها من الأولويات التي تفتح الطريق نحو بناء حركة وطنية جديدة تعيد للكفاح الوطني بوصلته، وللعدالة الاجتماعية وللنسيج المجتمعي متطلبات تماسكه وحمايته. المسؤولية كبيرة والعقبات الماثلة ضخمة، ولكن لا بديل عن أخذ زمام المبادرة، والمضي قدماً بالخطوة الأولى.