أصبح العمل على المستوى البلدي في العشرين عامًا الأخيرة حاملا لأوجه كثيرة.آ ألقت التطورات السياسية، الاجتماعية والاقتصادية بظلالها على العمل البلدي المحلي وقد أضفت تعقيدات وتحديات كثيرة وجديدة أمام اللاعبين على الساحة البلدية المحلية في كل مدينة وقرية.
مع تعاظم ثقافة الاستهلاك والفردية، بدأت دوائر الانتماء تتشكل من جديد، وأصبح المبنى التقليدي الذي حكم المشاهد الانتخابية على امتداد المدن والقرى العربية يتحطم لصالح دوائر انتماء أصغر وأصغر تحكمها ثقافة الفردانية، المصالح الضيقة، وإذا كان هناك فترة كانت تتحكم بالمشهد الانتخابي فيها.
في ظل "ثقافة الحمائلية" بمعناها التقليدي، أصبح التحدي الأكبر في السنوات الأخيرة هو كيفية التعامل مع" شظايا" هذه الحمائل والعائلات وانتماءاتها الأضيق.
أصبح المشهد أكثر تعقيدا لأن الإفرازات الجديدة أصبحت تلزم القوى المتنافسة في "المعارك " الانتخابية بأن تتعامل مع دوائر الانتماء الأكثر ضيقا وأن تأخذ بالحسبان مصالح هذه الدوائر، وبطبيعة الحال أصبحت المصالح أكثر عددا، وأكثر تعقيدا.آ
ق ظل كل هذا، بالإضافة إلى التراجع العام في أجواء المد الوطني وتسييس القضايا، أصبحت المهمة المناطة بالأحزاب التي تأخذ دورا في هذا المضمار شبه مستحيلة وأصبح العمل على المستوى البلدي ضربا من ضروب العمل المضني المحفوف بالمخاطر.آ
أدّى التراجع العام الذي أصاب "النَّفَس" السياسي، والذي ترجع أسبابه لظروف كثيرة، منها الموضوعية ومنها الذاتية، لتحويل محاولات تسييس الخطاب البلدي لما يشبه "حوار الطرشان".آ
كذلك، أدّى تخلي الكثير من الأحزاب الفاعلة عن دورها في هذا الحقل، آخذة بعين الاعتبار حسابات الربح والخسارة في المعارك الانتخابية القطرية أو حتى أحيانا تورط بعضها بالإمعان في خطاب المصالح، الحمائلية، أو الانتقام من منافسيها القطريين، إلى تعميق الأزمة، وتراجع السياسي لصالح اليومي، الاستهلاكي، والفرداني.آ
ولا بد من الإشارة إلى الظواهر الاجتماعية والشوائب على اختلافها كانتشار الجريمة، العنف ودخول بعض هذه "المجموعات " على السياقات البلدية لدرجة أن بعضها "ترعرع" في مستنقع فساد بعض الإدارات في السلطات المحلية وأصبح له وزن في اتخاذ بعض القرارات أو حتى السياسات المحلية.
في ظل كل هذه المستجدات وغيرها الكثير التي لم آتي على ذكرها أعلاه، أصبحت للمنظور الجبهوي للعمل البلدي أهمية بالغة، لأن هذه المستجدات والتغيرات تحتاج إلى قوة فاعلة، قوة شجاعة، مسيسة،آ تستطيع أن ترى كل هذه التغييرات بسياقها السياسي، الاجتماعي،آ ترصدها، تقرأها ولا تكتفي بدور "المنظّر" الذي يحلل الواقع ويلقي إلى فضائنا حلولا قد تبدو في قمة "الثورية" أو "المصداقية " ولكنها لا تصمد على أرض الواقع أمام كل هذه التحديات، أو "الحالم"آ الذي يعرض كل الحلول الممكنة، لتحقيق الواقع المنشود والذي يبدو أنه هو الحلم الذي نريده كلنا لبلدنا، لأبنائنا، ولكنه "يسقط" مع أول تجربة عملية ويصبح الحلم كابوسا. إننا نحتاج لقوة شجاعة تلتحم مع الناس، تؤسس لثقافة العطاء والانتماء وخدمة الناس كل الناس، إلى قوة تستطيع أن تبني، بتواضع الواثق بنفسه، شراكات حقيقية، للأخذ بيد الناس من دوائر انتماءاتها الضيقة إلى دوائر أوسع ورؤية المشترك.
لقوة تبقى، رغم التحديات، قابضة على الجمر وتضع الموقف السياسي أمام الناس، وتجعله متاحا أمامهم وهم يطالبون بحقوقهم، بمطالبهم اليومية والخدماتية. إنها القوة التي تمارس على أرض الواقع أحد الشعارات المركزية الذي طالما رفعه المشروع البلدي الجبهوي: "كرامة وخدمات".
إنها الجبهة. هذه هي القوة التي آثرت خلال كل السنوات أن تجتهد في كل مكان، في كل مدينة أو قرية أن تأخذ دورها في الساحة المحلية حتى تساهم كقوة مركزية بين الجماهير العربية في إعمار مدننا، والأهم بناء السياج الواقي لهذه الجماهير من خلال ثوابت أربعة أساسية سآتي على ذكرها، والتي وفقا لتجربة أكثر من عشرين عاما في العمل البلدي اقدر أنها هي خارطة الطريق للعمل البلدي من منظور جبهوي.
آ
الموقف السياسي
إن المشروع البلدي الجبهوي، وفي ظل ثقافة تغليب اليومي والاستهلاكي، لا بد أن يبقى يطرح الموقف السياسي العام، حتى وإن بدى "خارج الموضة" وحتى وإن لم تستسيغه أذن المواطن في بداية الأمر، فالمطلوب هو المثابرة في طرح السياسي في كل لحظة، وأن يتعامل مسؤولو العمل البلدي مع القضايا والهموم اليومية.آ
الموقف السياسي هو سيد الموقف ونحن نجيب لشاب في ريعان شبابه، مقبل على الحياة، يتوجه إلى المسؤول وهو في قمة غضبه لأنه لا يستطيع أن "يعمر" بيته ليبدأ حياته المستقبلية، فعلى المسؤول أن يعرف كيف يتيح السياسي من خلال توجيه أصبع الاتهام إلى المؤسسة التي مارست وما زالت تمارس عنصريتها من خلال تحديد سياسات التضييق على البناء في أراضينا الخاصة.آ
السياسي هو سيد الموقف وأنت تقف أمام أصحاب المصالح التجارية الذين استلموا إنذارات بالإخلاء وفقا لقانون كامنتيس، السياسي هو سيد الموقف عندما يتوجه لنا مواطن يريد تطوير البنى التحتية بجانب بيته فتشير له بالبنان على قرار الحكومة لتقليص ميزانيات التطوير "الزهيدة " أصلا وتحويلها لصالح دفع معاشات رجال الدين اليهود.آ
السياسي هو سيد الموقف عندما تأتي جامعية خريجة معهد لتأهيل المعلمين لتشكوا حالها أنها لم تستطع أن تحصل على تعيين رغم مرور سنوات على تخرجها، لتشير إلى سنوات التمييز في جهاز التربية والتعليم والتي أدت إلى وجود ما يقارب 11 ألف خريج وخريجه من دور المعلمين ينتظرون دورهم بالتعيين.وقائمةآ المطالب والقضايا الخدماتية تطول وتطول وتبقى المثابرة في التشديد على السياقات السياسية هي الأساس في المشروع الجبهوي البلدي.
ويبقى التميز بالمشروع الجبهوي البلدي والذي من المفروض أن يشغله الهم اليومي، وأن يشغل المسؤول الذي يقف على رأسهآ الحصول على أكبر قدر ممكن من الميزانيات، هو وقوف موقف صلب في تأمين التوازن بين المدني والقومي،آ وألا يسقط في الامتحان،آ وأن يستمر في العمل، والاجتهاد المهني للحصول على كل ميزانية متوفرة، وأن يتعامل مع أية خطة حكومية، وفي نفس الوقت لا يتراجع قيد أنملة عن الوقوف مع الناس وأن يشرح لهم أن ما نحصل عليه ما هو إلا النزر اليسير من حقوقنا، وأنه حق لا منة من أية حكومة، ولا يستوجب منا "أن ندفع "، مقابل هذا الحق أي موقف سياسي.آ
وهنا لا بد من التأكيد أن المسؤول لن ينجح في إتاحة الموقف السياسي، وتذويته في نفوس المواطنين إلا إذا توفرت الشروط التالية :
-لا بد من بناء الثقة والمصداقية بين ذلك المسؤول والمواطن حيث يكون دائما ماثلا أمام عيون المواطن أن هذا المسؤول هو صاحب الأيدي النظيفة، الذي لا يتربح ابدأ من موقعه أو موقفه، لا يساهم في نشر الفساد، بل يرى بموقعه، موقع خدمة للناس كل الناس.
-إضافة لذلك، على المسؤول أن يثابر دون تأتأة أو تعب أو إهمال لأي قضية، ويستطيع أن يحولها إلى قضية شعبية، نضالية يكون هو كمسؤول وكمؤسسة بلدية على رأس هذا النضال. عليه أن يواجه سياسات التمييز، يقارعها إلى جانب مواطنيه، فترى البلدية نفسها تبادر لإقامة الخيم النضالية، اللجان الشعبية، والتواجد بين الناس بشكل دائم.
-إضافة لذلك، أن تكون البلديةآ عنوانا حقيقيا للناس كل الناس، أن يستطيع المسؤول أن يفتش عن المشترك مع كل القوى الفاعلة، أن يلغي من حساباته أي اعتبارات فئوية وأن يغلب ثقافة المجموع على ثقافة المجموعة أو المعسكر.آ
عندها فقط سيصبح الطريق أقصر وأكثر سهولة ليستسيغ المواطن الموقف السياسي ويغلبه على اليومي.
آ
الموقف الاجتماعي التقدمي الحضاري
لا بد أن تكون بوصلة المشروع الجبهوي الأساسية هي محاولة التأثير التراكمي على مجتمعنا لبناء مجتمع أكثر تقدمية، أكثر حضارة، مجتمع يتيح لكل فئاته العيش وفقا لرؤيته، ومعتقداته. لا بد أن يعمل المشروع الجبهوي عمل النملة في بناء حيز عام يضمن حياة ثقافية تقدمية، حيز يدعم النساء ويمكنهن من الوصول لمواقع ومفاصل هامة في حياة المدينة أو القرية أو المجتمع عامة.
على المشروع الجبهوي أن يخلق حالة تكامل بين البلدي وبين المحلي على مستوى القوى، الفعاليات والجمعيات الفاعلة في كل مدينة أو قرية لضمان الحيز العام المذكور أعلاه.آ
هذا المشروع الجبهوي في هذا المضمار الخاص، والذي قد يجد المسؤول نفسه فيه يقف أمام "كسر تابو" اجتماعي، إنما يقلق كل القوى المحافظة.آ كمشروع ثقافي يفسح المجال لنسائنا ولأطفالنا أن يجدوا حيزا عاما حاضنا يتعرض الى هجمة شرسة من على بعض المنابر أو حتى التعرض لتهديد يبلغ حتى لتنفيذ التهديد بإطلاق النار، لن يأتي بثماره إلا إذا توفرت شروط عديدة منها أولا وضوح الرؤية، تحديد البوصلة نحو تحقيق الهدف، المثابرة والمتابعة "والنفس الطويل " بناء شراكات حقيقية، وأولها مع الجمهور والناس لضمان التفافها واحتضانها لهذا المشروع.آ
على المشروع الجبهوي، وهو يتقدم نحو تحقيق هدفه في تأمين مجتمع تقدمي، أن يتقن حرفة النمل والمشي بين الألغام وأن يعرف كيف يراكم الإنجازات وتجنب المصادمة مع القوى المناهضة لهذا المشروع بشكل يجعل المجتمع منقسما لقسمين، لأن المطلوب هو تجنيد الناس لصالح المشروع، وضمان احتضانه.
آ
اقتصاد ضامن لحياة كريمة للناس
هذا أحد أهم الثوابت التي يجب أن تكون في مركز المشروع الجبهوي في كل مدينة أو قرية، لأن هذا المضمار، إلى جانب الثوابت آنفة الذكر، هو الذي يمكّن مشروعنا الجبهوي من تحقيق شعار الكرامة والخدمات فعليا على أرض الواقع.آ
هذا المضمار من العمل البلدي هو الأوسع والذي يشمل العديد من المجالات، فبناء وتطوير البنى التحتية للمدينة أو القرية لتحويلها إلى مركز اقتصادي يؤمن عيش الناس بكرامة وتعمير المناطق الصناعية وإدارة سياسات تخطيط ترى بتطوير الحركة الاقتصادية، تجاريا، سياحيا، سيعود بالتأكيد بالفائدة على المواطن وأيضا على المؤسسة التي تضمن عيشا كريما وخدمات يومية بمستوى يليق ويتجاوب مع طموحات الناس أو بعضها.
آ
الأمن والأمان
في ظل التطورات الطارئة على حياتنا، أصبح هذا البعد أيضا بعدا مركزيا في العمل البلدي، وعلى مشروعنا الجبهوي أن يكون فاعلا وبشجاعة للمساهمة بقدر المستطاع في محاربة ظواهر الجريمة، العنف، الخاوة وانتشار الفساد.آ
على مشروعنا الجبهوي أن يكون الضامن الأساس وبشجاعة المحارب بل المقاتل لضمان خلو المؤسسة البلدية من أية تأثيرات أو تداخل لمجموعات تفتش عن حاضنة للفساد المالي والإداري، وخصوصا في ظل تحول بلدياتنا أو البعض منها إلى مؤسسات اقتصادية تنفذ المشاريع باهظة التكلفة.آ
على مشروعنا الجبهوي تأمين قيادات بلدية شجاعة، قادرة على التصدي لمثل هذه الظواهر، وأن تكون جاهزة لدفع حتى "الثمن الشخصي " للصمود وعدم المسايرة أو حتى "إغماض العيون"، هذا كله بالإضافة إلى العمل المثابر في الإصغاء المستمر للناس، وتطوير مجسات ترصد الحراك المجتمعي لضمان تقليل الاحتكاكات بين الناس. على سبيل المثال لا الحصر، إحدى القضايا الملتهبة والتي قد تؤدي إلى خصومة بين الناس تتدهور إلى مساحات الجريمة والعنف هي موضوع الأراضي. فعلى المشروع الجبهوي ضمان مخططات مفصلة للأراضي بمشاركة أكبر عدد من الناس، مشاركتهم، والمثابرة للالتقاء معهم ضمن سيرورة ما يسمى "مشاركة الجمهور" للوصول إلى تقسيم متفق عليه بين أصحاب الأراضي لتجنب الخصومة والعداوة، حيث تكون الطريق عندها - للأسف الشديد - قصيرة جدا نحو مستنقع الجريمة.
على المشروع الجبهوي أن يثابر بعرض انتشار ظواهر الجريمة في سياقاتها السياسية والمثابرة في تجنيد الناس لتوجيه أصابع الاتهام للمتهم الحقيقي المسؤول عن انعدام الأمن والأمان، وترجمة الغضب إلى عملية نضالية طويلة النفس حتى تأخذ الحكومات مسؤولياتها.آ
على المشروع الجبهوي أيضا أن يرى بالنجاح بإضفاء أجواء ثقافية وتطوير أجيال منتمية ومعطاءة لبلدها كجزء من محاربة العنف والجريمة.آ
إن تعميق ثقافة "حبوا بلدكم، بلدكم بتحبكم " هي إحدى الأدوات الأساسية التي تعزز الانتماء وتنشئ أجيالا تؤمن أن بلدها هي حقا بلد يطيب العيش فيه، وتنشط لاحقا لحمايتها ورفض كل الشوائب الاجتماعية وعلى رأسها ثقافة العنف.
آ
ونحن نقترب نحو الانتخابات المحلية علينا جميعا أن نرصد مشاريعنا البلدية، أن نتوقف عند نجاحاتها، وبالتأكيد على بعض إخفاقاتها. علينا أن نرصد الأحوال في قرانا ومدننا وأن نعرف كم استطعنا فعلا أن نقترب من العمل البلدي بمنظوره الجبهوي وأن نجري تقييما شجاعا، حقيقيا، لأن من المؤكد أن مشروعنا البلدي الجبهوي ليس كاملا متكاملا وبحاجة لتقييم دائم، وتعديلات مستمرة وفقا لتسارع التطوراتآ
كما أننا بحاجة لتقييم كل الذين يأخذون على عاتقهم الوقوف على رأس مشاريعنا الجبهوبة المحلية حتى تبقى البوصلة تعمل وفقا لخارطة الطريق وأن نكون واثقين حقا أننا ننفذ أيماننا بأن مواقعنا في الساحات المحلية هي تكليف بخدمة الناس كل الناس والحفاظ على كرامة الناس السياسية والاجتماعية.
آ