اختار النّائب أيمن عودة عنوانًا علميًّا جافًّا يذكّر القارئ بعناوين الكتب التّعليميّة لكتابه الممّتع "الوطنيّة والمواطنة" الذي يطرح فيه "رؤياه لتجديد المشروع السّياسيّ للفلسطينيّين في إسرائيل"، والذي شدّني لقراءته من ألفه إلى يائه باحثًا عن رؤيا النّائب البارز والمثقّف الكبير والسّياسيّ اللامع الذي عاش الحدث حاملًا قضيّة شعبه في قلبه وعقله وعلى كاهله منذ كان تلميذًا على مقعد الدّراسة في مدرسة ثانويّة حيفاويّة مرورًا بعضويّة الشّابّ في بلديّة حيفا فسكرتيرًا للجبهة الدّيمقراطيّة للسّلام والمساواة ونشاطه الجبهويّ الواسع في فترة سياسيّة ساخنة وحرجة عاشها شعبنا، وصولًا إلى رئاسة القائمة المشتركة في العام 2015 وما رافق هذا الإنجاز السّياسيّ الوطنيّ الكبير من صعود وتألّق فتراجع وأسى.
ما توقّعت كتابًا سياسيًّا فكريًّا لهذا المثقّف الذي يحفظ عن ظهر قلب قصائد أبي الطّيّب المتنبّيّ ومحمود درويش وتوفيق زيّاد وسميح القاسم وأغاني كوكب الشّرق ويلتهم الرّوايات العربيّة والعالميّة والسّير الذاتيّة والمقالات النّقديّة لأشهر الأدباء ويحاور كبار المثقّفين العرب في جلسات أدبيّة وفكريّة بل كنت أميل إلى أنّه سوف يقدّم لنا نصوصًا أدبيّة قد تكون رواية أو مسرحيّة أو قراءات لأعمال أدبيّة كبيرة.
لفت نظري مقال بروفيسور زئيف شتيرنهل سنة 2018 في صحيفة "هآرتس" عن صعود النّازيّة في إسرائيل ولم تفاجئني زيارة أيمن عودة، كما يذكر في كتابه، للبروفيسور في بيته بعد ظهور المقال وحواره الفكريّ معه فأبو الطّيّب كما أعرفه نحلة تحلّق من زهرة إلى نبتة إلى شجرة ولا يكلّ ولا يملّ في الطّوافّ طارقًا أبوابًا مفتوحة وأبوابًا عصيّة على الفتح باحثًا عن الحقيقة وعمّا يفيد شعبه ويخدمه.
يكتب عودة أنّ مقال شتيرنهل مهمّ وخطير فالتّطوّر المهنيّ والاقتصاديّ لأقليّة قوميّة دون مناخ ديمقراطيّ هو بالذّات من شأنه أن يعزّز التّحريض عليهم حتّى الانقلاب ضدهم، ويتساءل عودة وهو يرى ما حقّقه علماؤنا وأكّاديميّونا في ميادين شتّى في هذه البلاد: هل علينا الاكتفاء بالنّجاحات الفرديّة أو حتّى الاكتفاء بالتّمكين الجمعيّ في مجالات منفصلة أم علينا أن نكون جزء من المعركة لتوسيع المساحة الدّيمقراطيّة في إسرائيل؟ وهل يمكن توسيع المساحة الدّيمقراطيّة دون الانتصار على الاحتلال والعنصريّة والتّمييز ضدّ المواطنين العرب ووقف ظاهرة الفوارق الاقتصاديّة، ويقرّر: هي ليست مسألة تجزيئيّة وإنّما شاملة.
نذر أيمن عودة حياته للعمل الوطنيّ السّياسيّ لخدمة قضيّة شعبه ويسعى في كتابه هذا لتقديم مشروع متكامل يرمي بالأساس إلى تطوير الرّؤيا المستقبليّة لهذه الأقليّة الفلسطينيّة الباقية الصّامدة المنغرسة في وطنها، ويطرح السّؤال الكبير: كيف نساهم بحقّ وبقوّة في انهاء نظام الفوقيّة اليهوديّة ودحر الاحتلال والعنصريّة واحلال السّلام والمساواة؟
يدرك عودة من خلال تجربته العريضة في العمل الوطنيّ والسّياسيّ أنّ "وظيفة القائد إيجاد إجابة شافية وخلق خطّة عمليّة تبني للمستقبل وتضع الخطوط الرّئيسيّة للمرحلة القادمة" ويقرّر "أنّ الواجب الوطنيّ يفرض صياغة رؤيا وطنيّة متقدّمة مشمولة برؤيا مستقبليّة قابلة للتّنفيذ".
هذا الكتاب يحتوي على رؤيا واضحة من رجل ذي تجربة سياسيّة عريضة تعمّد منذ صغره بالعمل السّياسيّ والوطنيّ والشعبيّ وخاض معارك قاسية وصعبة من خلال موقعه الحزبيّ، ويقدّم فيه للقارئ العربيّ الفلسطينيّ في البلاد رؤيا ورؤية، ومن واجب المثقّفين والفاعلين في السّاحة السّياسيّة، ومن واجب الأكّاديميّين والطّلاب الجامعيّين والجيل الشّابّ وكلّ من يهمّه حاضر ومستقبل شعبنا أن يقرأ هذا الكتاب باهتمام وأن يشارك في النّقاش فيما يقدّمه كي نصل إلى الحقيقة وإلى الهدف المنشود.
كنت يا أبا الطّيّب أيمن عودة شجاعًا في اعلانك عن عدم ترشّحك للكنيست في المرحلة القادمة، وأنت تضع اليوم في مؤلّفك الفكريّ خريطة لطريقك، طريق شعبك التي أرجو أن تنجح في تحقيقها فليس هناك شيء أهمّ من انهاء الاحتلال، ولن ننسى أنّنا ما زلنا نخوض معركة البقاء والصّمود في وطننا الذي لا وطن لنا سواه، ولا شكّ بأنّك تؤمن بقدرات شعبك الأصيل وأنّك تعلّمت الكثير من معلّميك السّياسيّين والفكريّين الذين يشهدون على نجابتك.