xxxxxxxxxxxx xxxxxxxxxxxx

أليس في بلاد العجائب

أليس في بلاد العجائب

بقلم : غسان زقطان

في جدولة الميزات التي يتمتع بها الزعيم السياسي، أي زعيم سياسي، تقفز إلى رأس الجدول الكاريزما والجاذبية وطريقة الأداء وسرعة البديهة وأسلوب عرض الأفكار، لغة الجسد وطبقات الصوت... الرئيس الفلسطيني محمود عباس يفتقر بشدة إلى معظم هذه الصفات، فالرجل لا يتمتع بكاريزما خاصة، ويكاد أسلوبه في الخطابة يقتصر على نمطية يمكن اعتبارها من دون تردد مضجرة، يساعد في ذلك صوت رتيب يخرج من طبقة باهتة، فهو يتحدث من دون حساب للوقت، أو قراءة للمتلقي المستهدف من الخطاب، أو للمزاج الشعبي، أو للإطار الحزبي الذي ينتمي إليه، وبسبب تاريخه وحضوره، وهو هنا حركة "فتح"، التي قادت المشروع الوطني الفلسطيني ومنحته هوية عبر مسيرة قاسية وغنية وحضور شعبي وعالمي.

يرتجل من دون ضرورة، ويواصل زج توضيحات مدرسية لشرح أفكار واضحة في الغالب، ولكنها تكسر تسلسل الفكرة، بحيث تتحول تلك الجمل المعترضة والهوامش إلى استطرادات تقوده إلى مناطق يصعب بعدها العودة إلى المتن الرئيسي للهدف من الخطاب.

ربما من هنا يمكن عقد المقارنة وتبين الفرق بين خطاب ياسر عرفات الشهير في الأمم المتحدة عام 1974، مع احتساب الأخطاء النحوية، وخطاب أبو مازن الأخير في إحياء ذكرى النكبة أو الذي سبقه أمام الجمعية العامة للمنظمة الدولية، وهو الفرق بين الرجل الحيوي القصير القامة المحاط بمسيرة من الرموز والإشارات التي حافظ عليها بينما هي، الرموز، حوّلته إلى رمز، الرجل الذي ذكّر العالم في أول خطاب له بأنه يحمل بيديه بندقية وغصن زيتون، طالباً منه أن لا يسقط غصن الزيتون، وبين لازمة "احمونا"، وهي استغاثة يمكن ترجمتها من دون مبالغة "نحن ضعفاء وعاجزون ونحتاج إلى الحماية"، وستكون أكثر ميلودرامية عندما تترافق مع رجاء قادم من بئر عميقة من اليأس والجزع، اليأس من قدرتنا وليس من العالم.

صحيح أن عرفات كان محاطاً بفريق شاب متفتح وأفكار وجدل عميق بين مكونات منظمة التحرير في زمنها الذهبي، وصحيح أيضاً أنه  قرأ خطاباً كتبه إدوارد سعيد ومحمود درويش، بتكليف منه طبعاً، فبدا أن المفكر صاحب الاستشراق والشاعر المبدع المقاوم يقفان إلى جانبيه بوسامتهما الخاصة وحضورهما الحيوي في مخيلة العالم، بينما لم يبق هناك من يقف إلى جانب أبو مازن بعدما أبعد، تقريباً، كل ما له علاقة بالثقافة والفكر والإبداع والجدل من مملكته الضيقة وحاشيته التي يحملها على كتفيه مثل صدى لمشيته وصوته وفكرته عن نفسه.

الحقيقة، لم تكن الخطابة من الأسباب التي قادت أبو مازن إلى الرئاسة، ولا جاذبيته الشعبية بالتأكيد، وصل محمود عباس إلى موقعه بدأب موظف صبور، وجد نفسه محشوراً بين مجموعة من الثوريين وبنّائي الجسور، والنشطاء الميدانيين، أصحاب خبرة في مخاطبة الناس مثل ياسر عرفات بجاذبيته وشجاعته ودهائه السياسي وخليل الوزير "أبو جهاد" بهدوئه وصمته الواثق، وأبو إياد الذي استطاع أن يجمع بين الغموض والحضور القوي، وخالد الحسن الذي جعل من فوضى "فتح" أيديولوجيا، وهاني الحسن بدهاء السياسي وواقعيته المأمونة، وماجد أبو شرار المثقف اليساري الذي مثل اليسار الفلسطيني في "فتح" وأوجد له موقعاً في غابة اليمين.. وآخرين، في الجناح اليساري على الضفة الثانية لائتلاف منظمة التحرير كان جورج حبش بكاريزما مدهشة ومبدئية سياسية وأخلاقية نادرة، ونايف حواتمة القارئ والمنظر والمحاور ورجل المساومة وبناء التحالفات، وغسان كنفاني الأيقونة الثورية للمثقف والمقاتل وسواهم، ما الذي يمكن أن يفعله شخص وصل بذاكرة موظف وماضيه في هذا المهرجان من المحترفين.

هو ابن الثورة، لا شك في ذلك، ولعله آخر الحرس القديم، ولديه اجتهاده الوطني المختلف ربما، ولكنه أسير نمطه، نمط الموظف، وبدل أن يجتهد داخل اجتهاده أمام المتغيرات، واصل تعويض الثغرات التي تتكاثر في أدائه بمزيد من الفردية وتكثير الذات والعناد، مكان كل صورة كان ينتزعها من الحائط كان يضع صورته، مكان كل ثغرة تظهر كان يضع بورتريه له، مكان كل مستشار يتخلى عنه يضع شبيهاً له، مكان كل مجادل يختلف عنه يضع موالياً موثوقاً....

الآن وهو ينظر في الجدار يحدق في صوره ويصغي إلى صوته.

الآن وهو ينظر حوله يرى مجموعة من الأشخاص الذين يلبسون أقنعة تشبهه، كما لو أنه مشهد الملكة الغضوبة في "أليس في بلاد العجائب"، محاطة بحاشيتها وهي تعتقد أن التشوّهات والزوائد التي تشبهها لدى أفراد حاشيتها هي حقيقية، وليست إضافات مزيفة وتشوهات مقصودة وضعها أفراد الحاشية لإرضائها.